ثقافة وفن

مرثية أب لابنه.. شمس الدين العجلاني يرثي ثائره…الله ما أروع أن يستشهد ابنك على تراب الشام ويحتضنه أبناء الشام!

شمس الدين العجلاني : 

مرات عده أغلقت شاشة الكمبيوتر، وخانني القلم والعقل، كيف يا ضنايا أكتب ومن بعدك جفّ الحبر وانكسرت الأقلام، كيف لرجل أن يرثي ضناه الذي رحل في عمر الورد وروى دمه الطاهر تراب الشام الطاهر..
كل شيء كان في حياتك سريعاً يا ولدي، فليس غريباً عليك أن تسرع للشهادة.. ليس غريباً عليك يا ولدي أن تنضم لقافلة سيد الشهداء وتصرخ بأعلى صوتك «لبيك يا حسين» ألست سليل العترة الطاهرة وجدك سيد الشهداء.. قلت لك: تمهل يا ولدي.. لم تسمع كلامي.. وقلت لي: لماذا سميتني ثائراً..
قلت لك: الوطن بحاجة إليك أكثر الآن فتمهل…. ولم يتمهل وارتقى شهيداً يروي تراب الشام..
لم أتخيل.. أو أتوقع أن أزف ولدي البكر عريساً شامياً لجنان الخلد.. لم أتوقع أن أزف فلذة كبدي وأرمي التراب على جثمانه الطاهر وأضع زجاجة عطر صغيرة تحت رأسه، حسب وصيته… هذه الزجاجة هي ماء ورد من الوردة الدمشقية كانت ترافقه طوال حياته القصيرة، وكان يتعطر بها ويتداوى بها.. هذا هو ثائر ابن هذا البلد الأبي، ابن الشام من بابها لمحرابها، ابن بردى، الذي يغسل الياسمين والورد ويزف العشاق بالعراضة الشامية.. ابن الفرات والعاصي ابن البحر والسنديان، ابن السهل والوادي والجبل، ابن المدينة وحضارتها، وابن الضيعة وطيبتها، وابن سيف ذو الفقار وابن الشيخ رسلان وصديق ابن عربي ومن عشاق المريمية وباب توما..
ما من ياسمينة شامية إلا كان صديقها، ما من طفل وامرأة وشيخ ورجل إلا كان صديقاً للثائر..
الله ما أروع أن يستشهد ابنك على تراب الشام ويحتضنه أبناء الشام من سورية بكل أطيافها، ومن لبنان الوطني وفلسطين الجريحة، والأردن المدمى..

سليل العشق والياسمين
والله.. والله كل شجيرات الياسمين في منزلي ذبلت منذ استشهادك يا ولدي، وكل ياسمين الشام حزن عليك، ألست سليل العشق والياسمين.. ألم أقم لك زفافك في فندق الشام على أنغام العراضة الشامية.. ألم أزفك من مشفى تشرين العسكري وأنا أغني لك «زينوا المرجة والمرجة لينا» وصرخت من قلبي وعقلي وفكري وبأعلى صوتي «زلغطوا» للعريس.. والمرجة يا بنيّ تنبض بتاريخ شعب أبي أحب الحياة.. والمرجة يا بنيّ سجل الأبطال والشهداء ورمز دمشق الخالدة….
يوم استشهادك يا ولدي «فتلت» في كل أزقة وزواريب وحارات الشام أدق الأبواب وأتوسل للنساء أن «يزلغطوا» للعريس الذي ارتقى لأعالي السماء.
وزاهر وهيا من بلاد الغربة اتصلوا معك وحدثوك عن ألم الفراق وعن الذي مضى وكان، وجاد وتيم رأسهما يطول السماء ويصرخان نحن أبناء الشهيد، «يا حيفي» عليك يا أم ثائر، «يا حيفي» على أم كل الشهيد، ماذا أحدثك يا ولدي عن أمك وكنت صديقها ورفيقها وابنها البكر، أتذكر يا ولدي حين علمتك قيادة السيارة ولم تكن رجليك تطول دعسة البنزين والفرام، أتذكر مقهى النوفرة ومقاهي الشام القديمة والاركيلة التي تنصبها بحضرة أمك..
آه يا ولدي وما نفع الذكرى وتلك الأيام فالذي كان كان وأنت الآن في رحاب رب العباد..

وكنت عريس الشام
قال لي عده مرات: في يوم من الأيام سترفع رأسك بي عالياً يا والدي المفدى «لم ينادني يوماً بكلمة بابا أو أبي بل كان يقول لي: «أبو ثائر أو معلم أو الوالد المفدى، لم يناد أمه إلا باسم «هدى أو هدوه» لأنه يعتبرها صديقته ورفيقة دربه قبل أن تكون أمه.
لم أعلم أنه سيمنحني لقباً لا يمنح إلا لرجل استثنائي اختاره اللـه ليكون أبا الشهيد، فيا آباء الشهداء ترحموا على شهدائكم، وارفعوا الرأس عالياً فكل منا أكرمه اللـه وأصبح أبا الشهيد.
قرابه الساعة الخامسة والنصف من يوم الإثنين 27-7-2015 كانت الشام على موعد مع القدر، وكان كل أهل الشام يتحضرون لزفاف عريسهم وأمير شامي عتيق ارتقى شهيداً دفاعاً عن عشيقته الأبدية الصبية التي تجاوزت من العمر عشرة آلاف عام ولم تزل بعمر الورد، تعطر العالم بأريج الياسمين والفل..
جاءني يتكئ على عكازتين فقبلت عينيه وبكيت، فقال لي ولما قبلت عيني، فقلت له لأنك آخر من رأى ابني ثائر، وعيناك يا سيدي أصبحت الآن قبلتي، أركع أمامهما وأتلو أناشيد عشق الشام، هو صديق لثائر بل أكثر بقليل، هو أخ لثائر، بل أكثر بقليل أيضاً، هو جندي مقاتل يعتبر «مثله كمثل أبناء الشام» ثائر ابنه المفضل والمدلل، كان مع ثائر في لحظاته الأخيرة وطلب من الثائر أن يبتعد عن قذائف الحقد والإرهاب، ولم يتمهل ابني بل اندفع سريعاً ليأخذ لقطة من كاميرته لقذائف الحقد التي انهالت على عشيقته الشام، وهنا فتحت السماء أبوابها، وأتى صوت الحق: (سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وارتقى ولدي لرحاب رب كريم…
وزفت الشام عريسها على زغاريد نسائها، وأصوات رجالها تصدح: زينوا المرجة، كل كنائس الشام قرعت أجراسها حزناً على فراقك وفرحاً على ارتقائك شهيداً للشام، وكل المآذن بكت على شهيد الشام..
فادي وحمزة وياسر ورامي… كل رجال الدفاع الوطني يرفعون رأسهم عالياً، لأنك وطني وتدافع عن الوطن، قالوا لي ثائر كان صديقاً وأخاً ورفيق درب لا ينسى، ولن تنسى يا ولدي.
بكتك يا ولدي دمشق التي عشقت، دمشق حارسة العرب والعروبة.. بوابة الدين والدنيا.. مهد الديانات التي انطلق منها بولس الرسول، وتبوأت أعلى القمم عام 661م عندما أعلنت عاصمة العالم الإسلامي..
دمشق التي عشقها الثائر هي التي شد الرحال منها إلى أصقاع الدنيا لإقامة أول دولة عربية جبارة.. دمشق التي تداخلت فيها العبقرية والأسطورة والخيال.. دمشق أرض الأحلام وحدائق الياسمين.. دمشق التي فتحت أبوابها للضيف، وردت أعداءها بالسيف.. دمشق التي لم يهجرها أهلها، ولم تنقطع أخبارها عبر التاريخ الغابر والحاضر، وبقيت عامرة آهلة بالسكان منذ أن سُكنت أول مرة قبل آلاف السنيين قبل الميلاد.. دمشق التي تختزن التاريخ وتحكي أحجارها وسماؤها عن أسرارها.. دمشق ذات السبعة أبواب، والسبعة أنهار، والسبع مدن.. دمشق الرقم الصعب التي لا تنام على الضيم، وتكرم الضيف…. دمشق المدينة الأميرة التي لا تشبهها المدن.. دمشق المرأة التقية النقية، التي لا تبارح سجادة الصلاة، وتتوضأ بماء العروبة، وتدق ناقوس المحبة في حاراتها وأزقتها.. دمشق التي احتضنت الشيخ الهائم على وجهه ابن عربي وألبسته عباءتها.. دمشق الأميرة الآشورية، البابلية، الفارسية، اليونانية، الرومية، الآرامية، الأموية، العباسية، الفاطمية الجميلة، مدرسة العروبة وسيفها وقلمها.. دمشق هذه مهرها غالي غالي وولدي قدم دمه مهراً لدمشق.
يا أيها المشيعون.. يا أيها الحزينون.. يا أيها الواقفون على ضريح ابني تذكروا أنه قاتل قتالاً عنيفاً شرساً دفاعاً وعشقاً عن الشام، قاتل بالكلمة والكاميرا والكلمة الصادقة الحقيقية الحرة التي أبى إلا أن تصل لكل العالم..
يا أيها الأهل والأصدقاء والأحباء.. يا أهل الشام.. في يوم من الأيام كان ثائر ابني واليوم هو ابنكم، فحافظوا على بسمته وكلمته وكاميرته، حافظوا يا أهل الشام على الطفل الذي كان بحجم أشد الرجال بأساً وعشقاً لـ«ليل حبيبه».
ولد من رحم الياسمين، وتغنى بالوردة الدمشقية وروى تراب الوطن بدمه الطاهر، كل ياسمينة ستنجب طفلاً ومحال أن ينتهي الياسمين، فنم يا ولدي قرير العين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن