ثقافة وفن

انبثاق الفجر

| إسماعيل مروة

ينبثق الفجر القادم من نور عينيها اللتين تشرقان من أعلى قمة في قاسيون، يغمر النور صلاح الصالحين في صالحيتها، ويخرج ذو الكفل بأحيائه الذين لم يغادروا، ونؤدي الصلوات بعد أن ينادي للصلاة فيها الشيخ محيي الدين، ويغمرنا الشيخ رسلان بدعائه، وترانيم حنانيا تصدح من مآذنها التي ما عرفت غير النداء على الحب.. ويسرح نور عيني المدينة الإنسان في كل زاوية من زواياها، ويشعشع وهي تغمر العابد بدعائها وتطوقه بذراعيها اللتين احتفظت بهما له وله وحده، وهي تراه شاهراً حبه الغامر النقي، ومردداً على مسمعها: لا تحزني سيدة الدنى، ما مرّ أحد من هنا..
لا تكتفي بقبلة من رأسها
ولا يرتوي هو من عناق لحظة تساوي دهراً..
تغزل للعابد عمامة من وله وعشق، وتنغمس في عمامته لتتوه، عمامة لا تشبه سواها، عمامة من وله الروح والإنسان، له غزلتها، ولها أخلص السجود على عتبات لم تحفظ وجوه العابرين إلى ذواتهم، والذين لم يدركوا أن ذواتهم لا تكون إلا بالذوبان في ذاتها.
مع الربيع تفتح الورد وجنات لها من قاسيون إلى آخر شوط يمكن أن يصله فارس تعتق بمائها وريقها ودمها، وكلما قطف وردة نبت ورد من جديد، وبلحظة واحدة، ففيها لا يذبل الورد، وكلما عانقته بمسام من يديها الطاهرتين تحولت أصابعه إلى زنبق وفل وعطر لا ينتهي ولا ينفد… مع الربيع تقبل بكل قبابها ووديانها ومغاراتها وتلالها وغوطتها لتغمر الغد القادم، الغد الذي لا يشبه يوماً، وكل غد أبدع من اليوم، يستهلك يومه، يودع أمسه، يرقب غده فيها، وعلى ملامحها الطهرية التي تغص حباً وحناناً عند كل منعطف، وفي كل آهة، أم تحضن وليدها ولا تقبل أن يغادرها مع الزمن المتطاول.
مع الربيع تعلن أنه نوروزها، وأنها أمه، له أوقدت النار في قمة قاسيونها، ونذرت هابيلها، ومناراتها وكهفها المترع بالطيب الذي لم يصل إليه مدى… خرج من الدمار والقتل والدم، لكنه يعلم أنه لم يخرج بطولة أو ذكاء أو حرصاً..! خرج بدعاء أمومتها، وبدمع لوعتها، ويحب بحة صوتها القادم من تلال المدينة التي تحرسها وتحرسه.
لم ترده قرباناً للدم والقتل
أرادته قرباناً لها.. ينزرع فيها
تحت كل قبة، مع كل نداء للأذان، مع قرع ناقوسها..
تلده أمه من جديد، تمسح على رأسه، وتتركه يجوب كل طهر، وكل ما فيها طهر.
سيمضي عمرك يا ولدي ولن تشتم غير العطر المطلق، قالت له، يا ولدي لك هذا الكون من عطر، مع الربيع غنّ لي، اكتب لي، عبّد طرقاتي، طهّر عمامتي، رنّم تراتيلي، جوّد قرع أجراسي، فأنت وحدك لي، وأنا لك..
لست للدم والدمار والقتل
للحب أردتني ولن أكون إلا له
لأمومة كانت وأسلمتني إلى أمومة
أنهض من عثرتي لتمسح يدك الحانية غبار ما علق..
وأشهد معك انبثاق الفجر القادم، لن يكون إلا فجراً لائقاً بطهر الروح فدمشق لا تعرف إلا لحظة الولادة لفجر الأيام المشرقة من عمق تاريخها وإنسانها وحضارتها. يحمي دمشق أنها حضارة وليست مدينة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن