ثقافة وفن

أسرفنا في التجريد وبقينا نرسمه حوالى نصف قرن … عاصم زكريا لـ«الوطن»: البيوت الدمشقية تمثل الذاكرة السورية وهي من موروثاتنا الغنية والثقافية

| سوسن صيداوي

دمشق الذاكرة في الحجارة، من على الطرقات، وعلى جنبات الأرصفة، من الهمسات والأصوات العالية، بين المارة في الأسواق، إلى حنين البيوت وما تضمه من حيوات لبشر، إضافة إلى مديد من مزيد لا يمكن أن ينتهي، يبقى صدى لذاكرة تجمع كل شيء عبر أزمنة لسنوات فيها كل الفصول والألوان والمشاعر. قلّة هم من اهتموا بتوثيق هذه الذكريات التي لملمتها مدينة بعمر تاريخ، قلّة من ينهضون بدفء الشعور ويشدّون على حماسته، واليوم يجد الفنان عاصم زكريا -بحسب تعبيره- نفسه وحيداً في لون من ألوان الفن التشكيلي يُنعش ذاكرة ويحاكي وطناً. ويعود بنا فناننا من خلال الأعمال المطروحة في معرضه «دمشق الذاكرة» الذي أقامه في صالة الآرت هاوس بدمشق، إلى عام بدأ معه بالمغامرة، ليخبرنا عن قصة الشباب، وعشقه للبيوتات الدمشقية بما تكنزه من جمال عمراني وهندسي يشير إليه بعاطفة كبيرة. وحول تفاصيل أكثر عن المعرض تحدث الفنان عاصم زكريا والناقد محمد مروان مراد.
النوائب عابرة

بدأ الفنان التشكيلي عاصم زكريا حديثه عن معرضه متمسكا بالقوة والحزم اللذين تتمتع بهما سورية ورجالاتها في مواجهة الاستعمار والنوائب قائلاً: «لاشك أن هذا المعرض بادرة طيبة، وهو من ملامح الانفراج من النوائب التي عصفت بسورية، وهي نوائب عابرة، لا قيمة لها، والأمة العربية كانت مرّت بنوائب كثيرة، اجتازتها كلّها بيسر وبسهولة، لأن رجالات سورية قادرون على أن يستوعبوا هذا الخطب».

حقبة للبيوتات الدمشقية
وعن اللوحات التي شارك بها في المعرض قال: «قدمت اللوحات بناء على رغبة الإدارة في الصالة، حيث طُلب مني أن تكون من عام1970 وما قبله، يعني من أول بدايتي في الرسم، لأنها تمثل الذاكرة السورية الاجتماعية القديمة، وهي موروث قوي جدا من موروثاتنا الغنية والثقافية التي هي ركن من أركان الدولة. ويمثل المعرض حقبة للبيوتات الدمشقية القديمة التي تعود إلى العصور الأموية والعباسية، وهنا أحب أن أشير إلى أنه من حسن حظنا ما زال لدينا عدد كبير من أحياء دمشق القديمة التي تحمل الطابع الذي أنا رسمته، وهي باقية في مواجهة الزحف العمراني الممتد مسببا تآكل بنية دمشق القديمة، الأخيرة التي بيوتها أجمل من بيوت اسطنبول التي نجت ولم تتعرض لما تعرضت له بيوتنا من غزوات وكوارث بيئية دمرت هذا الإرث».
وأضاف الفنان زكريا: إن هناك أيضا عدداً من الفنانين التشكيليين الذين اهتموا بلوحاتهم بعمارة البيوت الدمشقية وبتكريسها كمنتج حضاري وثقافي يحتاج إلى التوثيق، منهم الفنان التشكيلي ناظم الجعفري وهو أول من رسم أحياء دمشق القديمة. ومن بعده جاء الأستاذ عز الدين همّات. وبيّن الفنان أنه سعى مثلهم في هذا المنحى وقام برسم عدة لوحات، ولكنه أيضا اهتم بمجالات أخرى.

بين المعاصر والرومانتيكي والتجريدي
وعن الحركة التشكيلية المعاصرة أشار الفنان: «أنا لا أعارض الفن المعاصر الحديث فهو يلائم الشباب، ولكن برأيي نحن أسرفنا في رسم التجريد وبقينا حوالى نصف قرن ونحن نرسمه، وبالنسبة لي أنا كنت قد رسمت بعض اللوحات التجريدية وهذا يكفيني، لأنني لا أرغب على الإطلاق في التخلي عن موروثاتنا الثقافية والهندسية. وبالمقابل لاحظت في الفترة الأخيرة أن هناك بعض الأسماء التي أخذت تتجه نحو رسم الواقع والاهتمام به، وهذا أمر مفرح».
وعن الفن الرومانتيكي تابع الفنان: في الحقيقة الفن الرومانتيكي يعتني بالفن القومي ويعتني بالثورات التي هي مطلب الشعوب، وثورات التجديد وضد الظلم من الشعوب التي تحتل بلاد أخرى، فمثلاً الاستمعمار الفرنسي نشأت ضده في بلادنا ثورة لأنه هو عدو وعلينا محاربته. وأنا أول من رسم لوحة ميسلون، ولم يرسمها أحد من زملائي بالشكل اللائق والمرضي دوليا، ولوحتي نُشرت في الكتب المدرسية، كما يتم عرضها دائما في ذكرى المناسبة. وهنا أوجه رسالة لزملائي وأدعوهم للاهتمام بالفن الرومانتيكي أكثر، وخاصة أن الأخير-وهنا سأتحدث عن التقنية- لا يهتم بالخط بل يهتم بالكتل اللونية، لذلك حين صادفت اللوحة بعض الأخطاء في الخط يتم التساهل معها، ولكن ليس على حساب الكتل اللونية، فالرومانتيكيون أحبوا الألوان في كل مجالاتها، لأنها تُبرز وتعبر عن صخب ونزق العواطف الجياشة. وخلال مسيرتي كنت ركزت على الفن الرومانتيكي ثم بعدها انتقلت إلى المدرسة الانطباعية التي هي ابنة الرومانتيكية، الأخيرة التي لم تعش طويلا لتستمر بعدها الانطباعية، التي أصبح فنانوها تلقائيين لا يهتمون بالخطوط، بل على العكس يقومون مباشرة بالتلوين محافظين على الكتل اللونية».

الصورة متجددة في البورتريه
بين اللوحات كان هناك لوحة بورتريه للفنان عاصم زكريا رسمها في عام1966، وحولها تحدث الفنان: «إلى هذه اللحظة أصبحت لوحات البورتريه التي رسمتها لنفسي تتجاوز عشر لوحات، وفي هذا الوقت سأرسم نفسي وأنا في عمر الحادي والثمانين، وبالعودة إلى البورتريه المعروض، كنت رسمته وأنا في سن السادسة والعشرين، بأسلوب تجلى بإسقاط حزمة ضوئية على الوجه، وذلك بسبب تأثري بالفنان الهولندي رامبرانت الذي تميز بقدرته على توزيع الضوء بطريقة لا يستطيع أحد أن يجاريه بها».
وأضاف الفنان: إن المعرض احتوى على مجموعة صغيرة الحجم من اللوحات وموضوعها أيضا مدينة دمشق القديمة، متابعاً أن الحجم هو أمر لم نعتده في أعماله، ولكن هذه المجموعة تعود للستينيات وكلّها مرسومة بالألوان المائية، وبأنه تابع موضوع دمشق القديمة حتى السبعينيات، لأنّه بعد هذه المرحلة اتجه إلى الهم القومي، حيث رسم لوحة اليرموك. مشيراً إلى أنه في هذه الأيام يستعد لرسم لوحة عين جالوت ولوحة حطين، وأنه لا يملك الوقت الكافي كي يرسم طفلا أو فتاة، متمنيا مشاركته في فنه الجميل من قبل زملائه الفنانين وخاصة أنه يثق بذكائهم وقدرتهم على تذوق كل جميل.

لم يتوقف عند مرحلة
من جانبه تحدث الناقد محمد مروان مراد عن اللوحات بتقنياتها وألوانها مشيراً إلى أن الفنان عاصم زكريا هو فنان عالمي، قائلاً: «أنا سعيد جداً لأنني عندما رأيت الدعوة لهذا المعرض استعدت ذكريات الماضي لسنوات طويلة تعيش في دمشق الجميلة، دمشق التاريخ والحضارة. وبالنسبة للفنان عاصم ذكريا، هناك أمور تميّزه عن غيره، وهي اللون واختياره له، وأيضا في خطه. أنا اعتبره فنانا عالميا وليس فنانا عربيا، فمواضيعه تركز على عدة محاور، المحور الأول مدينة دمشق بجمالياتها وتاريخها وببنيانها وعمارتها، وهو يعيد لنا الماضي ويؤجج فينا الشعور الوطني من خلال لوحاته التي قدمها لنا وتصور النضال السوري ضد المستعمر الفرنسي والثوار في الغوطة عندما واجهوهم، مخلدا في لوحاته الحس الوطني والغيرة عليه، وكذلك لا ننسى الوجوه التي تعبر عن نفسية مشرقة وجميلة جدا. وأخيرا نحن دائما نلمس لديه الجديد من الأعمال، فهو لم يتوقف عند مرحلة معينة بل استمر، لهذا يتألق دائما الفنان في أعماله».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن