ثقافة وفن

الوشم يتكلم بالعربي الفصيح … قصي رفاعي لـ«الوطن»: أجانب يكتبون على أجسادهم عبارات بالعربية

| سوسن صيداوي

ظاهرة أصبحت مألوفة. الوشم، انتشر في المجتمعات مستقطبا أفراد المجتمع المتحضّر ورموز الجمال والوسامة، وعلى رأسهم المشاهير من فنانين، ممثلين، مغنيين، أبطال رياضيين، وعارضي الأزياء، ليتبعهم الشباب والمراهقون. وبالطبع ما ذكرنا أصبح معروفا لدى الجميع ولكن ما هو مثير للاهتمام انتشار ظاهرة التاتو باللغة العربية الفصحى، ليس هذا فقط، بل التزيّن بها من نجوم ونجمات من العالم الهوليودي، ناشرين صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، بعد اختيارهم بأنفسهم لجملهم العربية الخاصة. وللمزيد حول هذا الموضوع توقفنا مع الشاب قصي رفاعي خرّيج كلية الفنون الجميلة قسم الاتصالات البصرية جامعة دمشق، والمستمر في العمل وتطوير مشروع تخرجه (الرسم على الجسد) منذ أربع سنوات وحتى اللحظة في الأرجنتين مستقطبا الإعجاب عبر فنيّة وجماليّة حروفه العربية الفصحى.

رحلة في التاريخ

«التاتو» أو الوشم أو النقش على الجلد، هو وضع علامة ثابتة في الجسم، بغرز الجلد بالإبرة ثم وضع أحبار أو أصبغة تتغلغل داخل الفتحات والجروح لتبقى داخل الجلد طوال الحياة. «التاتو»- وفقاً للباحثين- هي ممارسة عمرها آلاف السنين، ودليلهم على ذلك ما كانت تخبئه الأرض من بقايا لرجل ثلج تعود للعصر الحجري، وعليه 57 علامة على جسده. كما تم العثور على مومياوات في سيبيريا ومصر، وعليها نقوش أو وشوم على شكل حيوانات ووحوش. والأوشام لا تعتبر كلّها مجرد وسيلة للزينة، ففي بعض القبائل كانت تبرز الولاء للقبيلة التي ينتمون إليها، وفي مناطق أخرى كانت النساء يشمن أنفسهن لإظهار ارتباطهن إن كنّ متزوجات أم لا. بينما في أماكن أخرى كان للوشم فيها مكانة كبيرة، لأنه عندهم من أهم الثقافات والعقائديات، وكان يستخدم لوظائف جمالية أو سحرية أو علاجية.

تباين الفكر والغاية
في وقت ما، كان «الوشم» علامة ليتم من خلالها الاستدلال على المنتمين إلى الفئات الدنيا من المجتمع، أو المنبوذة أو المقصي أفرادها ويعيشون على هامش المجتمع، كالمجرمين والعاهرات، أو البحارة والسائقين وغيرهم، ففي مرحلة من التاريخ لم يكن الوشم اختيارا، إذ أقدم الرومان على وشم العبيد بعلامات تجارية بوصفهم بضاعة يتم بيعها وشراؤها وتصديرها، وحين يُلقى القبض على عبد هارب، كانوا يشمون جبهته بعبارة «أنا هارب». بعدها تم اتباع هذا الأسلوب في الأعمال الحربية، حيث كان يُطلب قانونيا من الجنود الرومان وضع وشوم معينة على أيديهم، كي يصعب إخفاء هويتهم في حال الانشقاق أو الفرار. بينما في مراحل تاريخية لاحقة وتحديدا في عهد القياصرة في روسيا ومن بعدهم السوفييت، استخدم الوشم لتمييز المساجين وفقاً لجريمتهم وعقوبتهم. وبالمقابل عمد النازيون إلى وشم المعتقلين اليهود والغجر وغيرهم في معسكرات الاعتقال بأرقام وعلامات، وفق أرقام تسلسلية توضع على الصدر بحبر لا يمكن إزالته. حتى إنّ حكايا التاريخ تقول في واحدة منها: إنه بعد معركة «هاستينج» لم يتم التعرف على جسد الملك «هارولد الثاني» إلا من خلال «الوشم» الذي كان قد رسمه، وهو عبارة عن كلمتين لاسم زوجته «إيديث» ولـ«بريطانيا»، منقوشا على أعلى قلبه.
على حين اليوم وبعد هذا الاستعراض السريع لمراحل تاريخ تطورت فيها هذه الظاهرة، أصبح بإمكاننا أن نستنتج أن «الوشم» بعد أن كان رمزا للإقصاء والنفي ممثلا ثقافة فرعية في المجتمع، أصبح- وفقا للقائمين والمهتمين- حركة فنية شعبية.

للكلمة أصل
في العصور الحديثة وخلال أسفار الكابتن (جيمس كوك) الإنكليزي، في واحدة منها إلى تاهيتي اكتشف أن الرجال والنساء لديهم العديد من الرسومات على أجسادهم، وكانوا يسمونها «تاتاو» ومن هنا اقتبس الكابتن (كوك) هذا المصطلح وجعله سهلاً على أبناء أمته ونقله لهم بلفظ جاء بكلمة «تاتو»، بعد أن تناقل أفراد طاقمه الرسومات وبالتبعية نقلوها إلي إنكلترا، وبالطبع أثارت الرسومات الجدل الكبير، إضافة إلى الأضرار الصحية التي كانت تسببها وقتها.

دقة الوجه السورية
«دقة الوجه» ليست غريبة عن المرأة البدوية أو الريفية السورية، واليوم لا نصادف امرأة- من الكبيرات سنا- أصلها من البادية السورية أو الجنوب السوري، إلا ومن السهل ملاحظة نقوش، لونها أزرق على جبهتها وذقنها وحتى يديها. هذه الوشوم كانت تستخدم بغرض الزينة، وترسم بطريقة ثابتة ولا تمحى مع الزمن، وذلك بغرز إبرة في الجلد بعد غطها بمسحوق الفحم، وما تجدر الإشارة إليه أنّ المرأة التي تفعل في نفسها مثل هذه الأشياء، تلقى صعوبة كبيرة، حيث ينز الدم بسبب عملية الوخز، وما ينجم عنه من ألم وخاصة لعدم توافر المواد القادرة على التخدير، ولكن كل ذلك يهون في سبيل أن تظهر جميلة أمام الناس. ولابد أيضا من لفت النظر إلى أن بعض رجال البادية كانوا يستعملون (الدق) سواء لـ(الغوى) أم للعلاج، أو بغرض أن يشيروا إلى انتمائهم إلى عشيرة ما.

آلة وطريقة
اخترعت آلة الوشم الحديثة عام1891على يد مؤسسها «سامويل أورايلي» الذي استوحاها من آلة المرسام التي اخترعها «توماس أيدسون» عام1877. ودرجت العادة أن يتم رسم الوشوم بواسطة ماكينة مدورة، لها إبرة حادة تتحكم بعمق الوشم ودخوله إلى طبقات الجلد، وفي هذه الماكينة علبة صغيرة معدنية لتعبئة الحبر بها، ولكن الآلية اختلفت اليوم، وحولها يحدثنا الفنان قصي رفاعي «عندما كنت في سورية عملت بآلة تقليدية تعطي أثناء الرسم خطوطا، لا تساعدني في رسم أشكال كبيرة، على حين الآلة التي أستخدمها في الوقت الحالي، هي آلة متطورة جدا وفيها عدة إبر بالرأس، وتساعدني مثلا على رسم يد كاملة بيوم واحد وذلك من خلال وضع العديد من الإبر في الوقت نفسه. وبالطبع الآلة الحديثة اليوم مصممة بطريقة خفيفة، بحيث لا تسبب أضراراً للجلد وفي الوقت نفسه لا تسبب ألما مثل الآلات الأخرى».
وعن الألم الذي تسببه عملية الوشم يضيف الفنان «وبالنسبة للألم الذي يسببه التاتو يكون بحسب طبيعة الأشخاص وتحمّلهم له من جهة وطبيعة جلدهم من جهة أخرى، وحتى الآن- وهي السنة الرابعة لي في ممارسة هذه المهنة- ألاحظ التحمل يختلف من شخص إلى آخر، وأيضا من الأسباب الحالة النفسية للشخص لأنه يخاف من الإبر. ولكن بشكل عام الآلات الحديثة لا تسبّب ألماً لا يحتمل أو جروحاً أو نزفاً كبيراً في الدماء».

الوشم لم يعد مؤبداً
في الماضي كان الوشم يذهب إلى ما لا نهاية، ولا يمكن إزالته بأي طريقة، ولكن اليوم مع التطور في الآلات والأدوات وحتى المواد، أصبح الأمر واردا، ولكنه لا يخلو من الصعوبات، وحتى الخطورة إن لم يكن من يقوم بإزالته شخص محترف، وحول الآلية المتبعة اليوم في إزالة التاتو، تحدث الفنان قصي رفاعي «إزالة التاتو جد صعبة وذلك يرجع لطبيعته، فإذا كان قديما، تتم إزالته بوضع حبر من لون البشرة، ويرسم به فوق الجزء الذي رسم به التاتو القديم، وبعد جلستين أو ثلاث تتم إزالة القديم ومن دون ترك أي أثر. أما بالنسبة للوشوم الجديدة التي تكون ألوانها غامقة، تكون إزالتها بالليزر- حيث يتم حرق الجلد- من خلال القيام بجلسة كل ثلاثة أسابيع مع استخدام مراهم (البانتينول) لترميم الجلد، ويتم الانتظار كي يترمم، وتكرر العملية على عدة جلسات. وهناك لابد من الإشارة، ليس الكل قادراً على إزالة الوشوم القديمة، لأن الأمر خطر وممكن أن يؤدي إلى إحداث تشوهات وحروق، بينما المحترفون قادرون على إزالتها من دون ترك أي أثر. وأيضا لابد من أن نذكر بأنّ هناك طريقة أخرى يلجأ إليها الزبائن، وهي بوضع أغلفة، وهي عبارة عن رسومات كبيرة توضع فوق الرسوم القديمة بحيث تتم تغطيتها بها».

الوشم يتكلم العربية
كما أسلفنا الذكر بأن ظاهرة التاتو لم تعد مستغربة، ولكن اليوم تنتشر الوشوم عالميا وخاصة في الغرب وهي تحمل حروفا لعبارات عربية فصحى، ليس هذا فقط بل يتم تكوين أو تشكيل الخط العربي بطريقة فنية كي يُرسم على الجزء من الجسم ويبرز بطريقة جميلة، وحول هذه النقطة يحدثنا قصي رفاعي وخاصة حسب تعبيره، إن هذه الرسومات كانت سببا لشهرته في الأرجنتين ولإقبال الأجانب بحماسة لاقتناء وشومات عربية الحروف على أجسادهم «لم تخطر ببالي الفكرة من قبل، ولكن من لفت نظري إليها صديقي الفنان وخريج كلية الفنون الجميلة بدمشق (رامي قطبي)، وهو من أكثر الأشخاص المحفزين بحياتي والذين قاموا بمساعدتي، وهو أيضا من ساعدني في تطوير تصاميمي، لأنه أول من طلب مني أن أقدم له تصميما لتاتو بالخط العربي، بعدها بدأت العمل على تطوير تصاميمي بهذا المجال، حتى توصلت إلى تصميم خط عربي خاص بي، وهو الخط الذي استخدمته بمشروع تخرجي-من كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم الاتصالات البصرية- الذي كان حول الرسم على الجسد، وكنت أخذته من اللغة المسمارية وحولته إلى أحرف أبجدية عربية وإنكليزية. بعدها في الأرجنتين ومن خلال الإعلان الذي صدر لي في شركتي المختصة بهذه النوعية من الوشوم، وكنت أيضا خلال الإعلان أتكلم به باللغة العربية، الأمر ساعد بمعرفتي من الأرجنتيين بالأجانب الذين يسعون للحصول على وشوم باللغة العربية الفصحى، ولأنهم يرغبون بالأمور الجديدة، أحبوا طريقتي برسم التاتو لأني أقدمه بطريقة فنية وأقوم برسمه كشكل وليس كخط، مما لاقى رواجا كبيرا». وحول طبيعة الأِشخاص التي تقدم على اقتناء وشم، ختم الفنان حديثه قائلاً «من الطبيعي أن أصادف تنوعاً كبيراً بالأشخاص الذين يطلبون التاتو، فلكل شخص طريقته المعينة بالتفكير وبالثقافة، وفي بعض الأحيان يكون التعامل مع بعضهم متعباً كثيرا. أما بالنسبة للمستويات الفكرية والذوقية للأشخاص، فهي متباينة ومنها ما تساعدني كي أطور التصاميم التي أعمل عليها وأن يتم رسم التاتو بطريقة فنية، وبصراحة هذا الأمر الذي استقطب الإعجاب وميّزني عن غيري، لأني أقدم لكل زبون تصميما أو وشما خاصا به».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن