ثقافة وفن

الذين لا يذنبون… العزف على عود الحياة

| آلاء جمعة

الذين لا يذنبون.. أنا الفتاة المطلوبة للذبح في قريتها.. أنا كبش إبراهيم أو إسماعيله المذبوح حقاً.. أنتظر حبيبي حتى يعود من ذبحه.. لأذهب إلى ذبحي أنا.

عندما تثقل عقلك بالكتب الدسمة لابد أن تأخذ نفساً مريحاً مع رواية خفيفة الظل رشيقة الأسلوب، تأخذك لفضاءات أخرى من الروعة والجمال وتذوق الأدب الذي تتوق له الروح باستمرار. ولعل رواية (الذين لا يذنبون) هي خير مثال على تلك النقاهة الفكرية التي لا بد لك منها كل حين وحين، هي التجربة الروائية الأولى للكاتب «زياد العامر» وتعتبر في رأيي بداية أكثر من موفقة بل قوية أيضاً تنافس الكثير ممن كتبوا روايات عديدة ولم يرقوا إلى هذا المستوى من الكتابة البسيطة والعميقة العميقة في الوقت ذاته. الرواية من إصدارات (دار كنعان 2017) تقع في 112 صفحة تؤكل في يوم واحد وتأخذ منك وقفة تأملية لأيام، تتمحور الرواية حول تصنيف مهم وبديع للكاتب براءة اختراعه وهو «الذنبيون واللاذنبيون)، ولن تفهم هذا التصنيف حتى يسرد لك حياة بطلته سيرينا تلك القروية التي تبدأ مراهقتها بحب يُسرق منها من أعز صاحباتها وبيت أسرارها وعائلتها هي أم مذنبة لأنها لم تلد غيرها، وأب يحاور زوجته دائماً بالسوط والعصا، ينهال على ابنته بالضرب إن تكسد المحصول ويؤمن بمقولة: «ما عنا بنات تقرا»، «لم تكن تعنيه نجاحاتي الدراسية في شيء.. كان علي أن أتزوج فقط.. وأعتقد أني أصبحت بالنسبة له عائقاً زائداً.. آنية يجب التخلص منها.. على الرغم من أني أشترك في كل شيء وأعمل في كل شيء.. غير أن ذلك لم يمحُ عني ذنب أني لم أتزوج». وهكذا تقرر سيرينا الفرار من قريتها وبؤسها لتخرج إلى عالم آخر عالم لم تألفه من قبل بكل مكوناته، ولم تتصوره حتى في خيالها إنها «دمشق» تدخلها بعد أن تم اغتصابها من السائق الذي أقلها إليها، تذهب من فورها إلى الجامعة معتقدة أنها ستجد مسكناً فيها وستباشر تعليمها وتصبح أمورها بخير إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، يتقدم سالم للمساعدة ويعرض عليها أن تشاطره منزله من غير أجر تدفعه إلى أن يحين التسجيل في الجامعة وتحجز غرفة في السكن الجامعي، يذهب بهما الحال إلى «المساكنة الشرعية» كما يسميها سالم.. ينصحها بالتسجيل في المعهد العالي للموسيقا فتستجيب وتختار العزف على العود الذي لا يحبه ذاك القروي نبيّ المدينة، دليلها ومرشدها ومعلمها الروحي أيضاً فقد تشربت منه جميع مبادئه وقيمه أحبت ما يحب وكرهت ما يكره، استقرت في روحها قناعاته ولبست نظارته التي يرى منها الحياة، هي تملك تلك النظرة التأملية ولكنه شحنها بخبرته وعمق أفكاره، وهذا ما أعطى الرواية البعد الفلسفي الجميل والتوصيف الدقيق لدمشق والحياة فيها ومكاشفة لصدور الناس ونياتهم نلمح دائماً الرؤية الوجودية للبطلة في ثنايا الرواية التي تنضج مع نضوجها وتتغير بتغير ظروفها وحتى هذا قرارها بعدم الإنجاب فهي لن تضيف معنى كاذباً ولا هدفاً مقابل أن تخسر عمرها، «بعض الذين لا يريدون أن تذهب أعمارهم «هيك» ينجبون أطفالاً، ثم أولئك الأطفال ينجبون أطفالاً أيضاً كي لا تروح حياتهم.. وهكذا الجميع لا يريد أن تروح حياتهم من خلال خلق حياة جديدة.. إنها خدعة الجنس البشري كي لا ينقرض.. أنا أريد أن أنقرض.. وأن يروح عمري.. لست عظيمة وانتهى الأمر»، ومما تفلسفت به أيضاً وهو كثير: «الأمكنة هي نحن.. هي ما ننظر إليه نحن تجاهها لا أكثر.. ربما لذلك يستطيع السجناء المقاومة عشرات السنين في سجونهم.. بينما تضيق بالبعض مدن وقارات بأكملها».
ومن سالم إلى كريم إلى أشرف.. عشرات الرجال الذين أرهقت عمرها بهم وعملها في البار وفي المطعم ملأت حياتها في دمشق بما تحب وبما اختارت بحرية مطلقة، نضج عزفها ونضجت روحها المتشوقة لسالم الذي غابت عنه بعد أن أخرجها من حياته بلا وداع وبلا قصة محزنة دفعها للحياة فتعلمت وعادت إليه لتهتدي عنده وتنهل من حبه الذي لم يشبهه حب ولكن القدر شاء أن يبدلها سالم الفنان بسالم القاتل الذي عاد تجذره إلى قريته وعزم على الأخذ بثأر أخيه المقتول على يد أبناء عمومته، يعود لها بعد سنتين من الانتظار فتراه موسوماً بقرويته الفجة وأصبح غريباً عنها شكلاً وروحاً، عقد عليها زواجاً وأمل منها طفلاً، لكنها هي من قررت هذه المرة الخروج من حياته من دون وداع وعادت إلى قريتها، اتخذت ذاك القرار الذي لطالما استبعدته وخافت منه فهي لاترى في عودتها إلا سكين أبيها التي سيعملها في رقبتها لا محالة ولكنها استسلمت واختارت الخلود «نحن الفتيات المذبوحات في القرية نعمّر أكثر من غيرنا وتخلّد أسماؤنا.. في قريتي حتى يخلد اسم فتاة عليها أن تكون مذبوحة»، «الجميل في الأمر أنني أضحيت حرة في خاتمتي.. هكذا من كل البؤس الذي يرافق قصتي.. حصلت على حرية العالم أجمع… حرة في حياتي.. وحرة في نهايتي… كم أنا محظوظة!». ولكن القدر يأبى أن ينهي حياتها كما أرادت فتعود لتجد أباها يُحتضر فيذبح بسكين الموت قبل أن يذبحها، ها هي الآن وحيدة فرغت من بنسلينها في النهاية وسالم لن يتصل بها بعد اعتذاراتها الطويلة وعاد لفنه وريشته فهو لا ذنبيّ وهي كما كانت كل عمرها غارقة في الذنوب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن