ثقافة وفن

رمضانيات دمشقية بين المجتمع والأسرة

| منير كيال

تميز سلوك الدماشقة بشهر رمضان باتباع عادات وتقاليد، تميّز هذا الشهر عن سائر شهور السنة، فلا يستطيع المرء التخلي عن أي جانب من ذلك السلوك، لكون ذلك يشكل أساس وجوده فهو والحال هذه يتمثل بذلك السلوك، ولعل مرد ذلك شعور الإنسان بإنسانيته بهذا الشهر، أكان ذلك باللقاء والتحاب والإيثار، أم كان ذلك بالرغبة في مشاركة أخيه الإنسان وتجليه عن الأنانية، بل الذوب مع الآخرين بالنقاء والصفاء والعطاء، حتى لكأن المجتمع أشبه بأيقونة من الود والمحبة والإيثار والتسامح لدرجة إذا أصاب أحداً من الناس أي مكروه من إنسان آخر فإنه يبادره بقوله:
سامحك الله… إني صائم.
فقد عشنا أيام شهر رمضان بالعقد الرابع والخامس من القرن المنصرم، كان فيها الناس أشبه بشخص واحد، ذلك أن المرء لم يكن يستطيع أن يبين المرء المسلم وغير المسلم، فالجميع سلوكهم سلوك المسلمين ولا يقوم أي إنسان بالخروج عما تواضع عليه المسلمون من سلوك بهذا الشهر، كنت لا ترى أحداً يدخن سيجارته بالطريق ومن ثم لا مجال لأحد ارتياد أماكن اللهو والعبث حتى لكأنها مهجورة.
بشهر رمضان بذلك الحين، يتحرر الإنسان من قيود يومية اجتماعية، ويدخل بإطار علاقات يذوب أو يتصل بها الجسد بالروح، فيؤطر سلوك كل إنسان المحبة والإيثار، ويسودها الوفاء ونجد الأسواق بهذا الشهر قد امتلأت بجميع ما تحتاج إليه موائد الإفطار.
وقد تميزت أيام شهر رمضان بما لم تجده في بقية أشهر السنة، ومن ذلك مواعيد العمل، وافتتاح محال الأسواق ووجود مآكل وحلويات ونقرشات لم تكن موجودة بالأيام الأخرى من أشهر السنة، وبالتالي الزيارات المتبادلة بين الأهل والجيران والأحباب للمباركة بحلول الشهر.
وكان من الأمور المهمة أن يقوم الجوار والأهلية والجوار بزيارة الأسر التي افتقدت أحد أفرادها للتعزية أو ما يعرف بإخدان الخاطر. والأهم من هذا وذاك افتتاح المساجد من صلاة الفجر أو الصبح حتى ساعة متأخرة من الليل والتقاء الناس بحلقات الوعظ والإرشاد حول كل ما يتعلق بفريضة الصيام.
ولعل من أميز الظواهر التي اتسم بها الناس بشهر رمضان نزوع الإنسان إلى الخير والعطاء والمسامحة، من إخراج الناس لزكاة أموالهم، وتقديم الصدقات والمساعدات للأسر المستورة.
وكان من أهم الظواهر لدى الدماشقة، قيامهم بسيارين قبل حول أيام شهر رمضان بعدة أيام وهم يطلقون على هذه السيارين اسم تكريزة رمضان وهم يعتبرون أن هذه التكريزة إنما هي وداع لما هم عليه من حال وأحوال بالتعامل والأخذ والعطاء، والانصراف إلى الطاعات والعبادات وأعمال الخير والبر، وقد تكون هذه التكريزة بالغوطة، وخاصة أيام الربيع، كما قد تكون إلى منطقة الربوة على ضفاف نهر بردى، بالمقسم والشادوران، وبالطبع فإن جميع أفراد الأسرة يشاركون بهذا السيران رجالاً ونساء وأطفالاً وكانت كل جماعة من السيرنجية، تجلب معها طعام الإفطار من حواضر البيت، كالجبنة والزيتون والمكدوس واللبن المصفى (اللبنة) والمعقود (المربيات)، أما طعام الغذاء فقد يكون مما يعدون من مقالي البطاطا والباذنجان والزهرة (القرنبيط)، وقد يطهى طعام الغذاء هذه بالسيران فيكون من مآكل الفول بالزيت (المقلى) أو البرغل بالفول، أو غير ذلك من مآكل البرغل فلما انتشر استعمال الرز بالطهي حل محل البرغل بكثير من المآكل «العز للرز والبرغل شنق حاله» وكنت ترى أن الجميع يشارك بإعداد طعام السيران، ولا تكاد يرى أحداً من أي جماعة من السيرنجية لا يعمل لإنجاز ذلك الطعام أو التفرج على الآخرين، على حين ينطلق الأطفال إلى ملاحقة الفراشات وهي تنتقل من زهرة إلى زهرة، ومنهم من يجمع إضمومة من الأزهار مما حوله ليقدمها هدية إلى والدته عرفاناً ومحبة لها.
وكانت جماعات السيرنجية القريبة من بعضها لا تغفل بل لا تنسى القيام بسكبة ما أعددته من طعام إلى السيرنجية القريبين منهم، محبة وإيثاراً وخشية أن تكون واحدة امرأة من الجوار بمرحلة الوحام من الحمل فتشتهي ما يعدّه جيرانهم من الطعام، ويظهر ذلك على شكل وحمة بالمكان الذي تلمسه أو تحكه لحظة اشتهاء ذلك الطعام.
كما أن من أهم مظاهر الاحتفاء بشهر رمضان، إكثارهم من أعمال البر والعطاء، فقد كان الكثير من أبناء دمشق يخرجون زكاة أموالهم بشهر رمضان، فيقدمونها إلى الفقراء والمحتاجين والأسر المستورة، بحيث يعيش الجميع في بحبوحة.
أما الإفطار فقد كان قبل انفراط عقد العائلة ويجنح الكبار إلى الاستقلالية وبناء أسرة خاصة بهم، فقد كان الجميع يأكلون من طبخة واحدة لا فرق بين امرأة أو رجل ولا كبير أو صغير، فلما انفرط عقد العائلة، وأصبحت الأسرة من أسر متعددة فإن إفطار أول يوم يكون على مائدة كبير العائلة، ومن ثم يكون الإفطار على مائدة من يليه سناً.
ومن جهة أخرى فإن على جميع أفراد العائلة أن يتقدم من ذلك العميد خلال الأيام الأولى من الشهر ويقبل يده مباركاً مهنئاً، وإذا تخلف أحد عن هذه المباركة فإن عميد الأسرة يشعر بعدم الرضى عنه.
فضلاً عن ذلك، فقد كانت الأسواق ممتلئة بكل ما تحتاج إليه موائد الإفطار من مآكل وشرابات كالعرق سوس والعصائر من التوت الشامي ومحلول المربيات من المشمش مما قد لا يتوافر بالبيت فضلاً عن المآكل التي تشتهر بشهر رمضان كالأرغفة المسماة المعروك وأرغفة الناعم والأرغفة الطويلة التي تسمى مشطاح الجمل فضلاً عن المحالي من الغريبة والبرازق والنهش.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن