من دفتر الوطن

الإفراط والتعصب

| حسن م. يوسف 

منذ سنوات طويلة حاولت أن أتتبع كل الشرور إلى أعمق جذورها وأقصى المنابع التي تنحدر منها. في البداية حسبت أن الغلو والإفراط هما رأس كل الشرور وأصلها، فالغلو هو التشدّد الذي يتجاوز الحدَّ، والإفراط هو الإسراف في القول والفعل من جانب الزيادة، وكلاهما يفضيان إلى النقصان. فالمثل الشعبي يقول: «كثرة الشد ترخي». غير أني بعد أن قلبت الأمور على مختلف وجوهها، استنتجت أن أصل كل الشرور في هذا العالم هو التعصب، فالتَّعصب هو اعتناق رأي أو مبدأ والدفاع عنه دون إعمال العقل فيه، والحكم عليه دون النظر في وجوهه المختلفة. فالفرد المتعصِّب غالباً ما ينحو لتحريف وتشويه وإساءة تفسير الوقائع، وتجاهل كل ما يتعارض مع آرائه المسبقة. وغالباً ما يميل المتعصب للتعميم وإطلاق الأحكام القطعية بما ينسجم مع آرائه المحرفة وقناعاته الموروثة. إلا أن التعصب يأخذ شكلاً إجرامياً فاشياً مرعباً عندما يريد المتعصب أن يفرض الرأي أو المبدأ الذي لم يعمل عقله فيه ولم ينظر في وجوهه المختلفة على بقية الناس وقطع رأس كل من لا يجارونه فيما يتعصب له!
أحسب أن أعراض التعصب ومراحل تفاقمه تختلف من بيئة إلى أخرى، إلا أن أهم ما يحرض الناس على التعصب هو الخوف من الغرباء، لأن جهلنا بالغريب يجعلنا نفترض أنه يشكل تهديداً لنا، كذلك يثير التنافس المهني والحرفي بين الفئات المتنافسة في شتى المجالات، ضرباً من التعصب. إلا أن أخطر أنواع التعصب هو الذي ينجم عن تباين المعتقدات وعلى رأسها المعتقدات الدينية.
أسوأ ما في التعصب هو أنه يصلنا ممزوجاً بأشياء جميلة، فحب الابن لوالده قد يجعله يرث عنه تعصبه في أمر ما، وإعجاب التلميذ بمعلمه، قد يجعله يتماهى معه في موقفه العنصري من الأفارقة على سبيل المثال، وحب التلميذ لزميله قد يجعله يقلده في تعصبه للدولة وممتلكاتها.
أحسب أن آليات عمل التعصب لم تخضع لما تستحقه من دراسة حتى الآن، خاصة ذلك النوع من التعصب القابل للتوريث الذي ينتقل من جيل إلى جيل!
قديماً قال أجدادنا: «كل ما جاوز حده، انقلب إلى ضده» وهذا يفسر سر الخلط، في أذهان بعض الناس، بين الحب والتعصب. فقد أحب هتلر ألمانيا حباً جماً وأراد مخلصاً أن يضعها فوق الجميع، لكن إفراطه وغلوه في ذلك أوديا به إلى التعصب لألمانيا، مما أفضى إلى دمارها.
خلال الأسابيع الماضية بدأت تتعالى في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام أصوات عالية، من جهات مختلفة، بعضها مبعثه الغيرة على مصلحة البلد بكل أطيافه، وبعض آخر منها مبعثه التعصب لموقف أو فئة أو فكرة. وهؤلاء تجدهم بين أهل اليمين وأهل اليسار.
وبما أن المتعصب الناجز يرفض أن يسمع أي شيء يختلف عما في رأسه، لذا أتجاوز المتعصبين وأتوجه لكل واحد من المخلصين الغيورين ذوي الأصوات العالية والرؤوس الحامية بهذه الكلمات:
صحيح يا أخي أن صوتك أعلى، وعباراتك قد تكون أحلى، وصحيح أنك تظهر بشكل متكرر على الشاشات، وصوتك يلعلع على هواء الإذاعات، وأنك ماهر في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من سواك، لكن هذا كله لا يعطيك الحق في احتكار الصواب.
أما أنتم يا من لا عمل لكم إلا انتقاد مؤسسات الدولة على الطالعة والنازلة فاسمحوا لي أن أهمس في آذانكم: إذا كانت الدولة قد أخطأت فهذا لا يعني أنكم على صواب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن