ثقافة وفن

المسحر صورة غابت

| أنس تللو

يا نايم وحّد الدّايم
يـا غافي وحّـد الله
يا نايم وحّد مولاك
يلي خلقك ما بينساك
قوموا على سحوركم
إجى رمضان يزوركم
صوتٌ أجشٌ قويّ يأتيك من مكان بعيد فلا تكاد تلتفت إليه وأنت غارق في نوم عميق، وتحاول أن تصم أذنيك لأنك متيقن آنذاك من أن لحظة منام تعادل كل ما في الدنيا من أنواع الطعام لكن الصوت يستمر خفيفاً لطيفاً، وما يزال يداعب مسامعك، حتى تتبين أنه صوت المسحر الذي يشدو بكلمات عبقة ترافقه فيها أصوات طبلته العريقة فيصدح بأجمل العبارات ويضفي على المكان سحراً خاصّاً.
إنه طقسٌ من طقوس رمضان الفريدة، طقس يمنح رمضان عبقاً خاصاً؛ ويهبه بعداً اجتماعياً مميزاً، فالمسحّراتي صورة لا يكتمل شهر رمضان من دونها.
لم تكن تلك الأنغام والعبارات التي يطلقها المسحراتي عشوائية، بل إنه يضرب بعصاه الخيزرانية على طبلٍ صغير، ليصدر نقراتٍ معدودة بإيقاعٍ مدروس، وينتقي كلماته التي توارثتها الأجيال، وما كان أجمله من منظر بهيج إذ ما يكاد يصل صوته إلى حي من الأحياء الشعبية القديمة حتى يتسارع الأطفال للإطلال من الشرفات، وبعضهم ينزل إلى مداخل الأبنية، وقد كان بعض الأهالي ينادي على المسحراتي يستمهله في السير لكي يرجو منه أن يحقق له رغبة ابنه الذي سهر طوال الليل من أجل تحقيق أمنيته الغالية؛ وكان هناك نوعان من الأمنيات اللاتي يتمناها الأطفال من المسحر؛ فمنهم من كان يشتهي النقر على الطبلة، ومنهم من كان يرغب في اللحاق بالمسحراتي لأطول مسافةٍ ممكنة من أجل مساعدته بالنقر على الأبواب أو بقرع الأجراس الكهربائية على أبواب المنازل، وكان هذا كله مما يدخل الفرحة إلى قلب المسحراتي فتراه مبتهجاً أكثر من بهجة الأطفال، لا سيما حين يجد من الأهالي مَن يستقبله على باب البيت ليقدم له كأساً من شراب الـعرقسوس أو التمر هندي.
المسحراتي مهنة خاصة متوارثة بين الأجداد والأبناء والأحفاد، وهي مهنة خاصة لا تكون إلا في شهر رمضان وتقتضي هذه المهنة أن يقوم المسحر بجولة ليلية في الأحياء الشّعبية ليوقظ النائمين.
ويقوم بتلحين هذه العبارات بوساطة ضربات فنّية يوجّهها إلى طبلته.
ومما يجدر ذكره أن مهنة المسحّراتي كانت تطوعية فلم يكن يأخذ أجراً، سوى ما كان يُسكب له من طعام زائد عن حاجة البيت، وكان يحمل معه سلة يضع فيها الطعام المخلوط من عدة أكلات؛ لذلك فإن الناس يصفون بعض أنواع الطعام الممزوج من عدة أطعمة بأنه مثل (طعام المسحر) فضلاً عن ذلك كان المسحر ينتظر أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلاً ومعه طبلته المعهودة، فيطرق الباب ويضرب على الطبلة فيتراكض الناس ليهبوه المال والهدايا والحلويّات ويبادلونه عبارات التّهنئة بالعيد السّعيد.
لقد كان صوته يرتبط بالقلوب.
واليوم؛ لعله من المؤسف أن نقول إن هذه المهنة الممتعة لم تتمكن اليوم من الصمود أمام تلك (الهجمة) الكبيرة التي هاجمتنا إياها التكنولوجيا الحديثة فقضت أو كادت على معظم العادات والتقاليد القديمة واستبدلت بها أموراً أخرى قد تكون نافعة ومفيدة، ولكن الجيل القديم مهما تطور به الزمن فإن حنينه إلى الماضي يبقى مشتعلاً، إذ لا يمكننا أن ننكر أن التكنولوجيا الحديثة سلبتنا متعة كبرى لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، ولا يتحسر عليها إلا من عرفها، فلا يمكن أن نقارن بين رنة من رنات الموبايل أو دقة من دقات ساعة التنبيه وبين تلك الألحان الشجية وذلك الصوت الرخيم.
رحم الله أيامك!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن