قضايا وآراء

السياسة والدين

| نبيل الملاح

خلصت في مقالٍ كتبته بعنوان: «الأساس الفكري لبناء الدولة والمجتمع» إلى أن الدين يبقى فوق كل الأيديولوجيات ولا يمكن تجاهله على الإطلاق ضمن إطار أي صيغة ولأي نظام حكم ولا بد من النظر إليه باعتباره أيديولوجيا تعلو جميع الأيديولوجيات الأخرى وأن المشهد الأيديولوجي برمته في حالة تحول وعلينا أن ندرك حقيقة وتأثير الدين في المجتمعات العربية التي تتكون من عرب وغير عرب وإن كانت الغالبية عربية، ودعوت مراكز الدراسات والأبحاث في الدول العربية للعمل على النهوض بمشروع كبير يتماهى فيه الوطني مع القومي مع الديني، فهو مشروع «الضرورة» وفي ظل ما يعيشه العالم من اضطرابات وتناقضات للخروج من هذا النفق المظلم ولمواجهة المشروع الصهيوني الذي باتت منطقتنا مسرحه المتقدم.
لقد كانت ثنائية الدين والدولة موضع اهتمام الكثير من المفكرين والكتاب في الفكر العربي الحديث والمعاصر، وخلص المفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري إلى أنه من الواجب استبعاد شعار «العلمانية» من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية اللذين يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمعات العربية، وحذر من أن تحول السياسة الدين إلى عامل تفريق بدل أن يبقى عنصر جمع وتوحيد كما هو في جوهره.
وهنا أرى من المفيد الاطلاع على مفهوم الدين في الغرب وما طرأ عليه من تحولات طوال القرون الأربعة الماضية، خلال عصر الحداثة وما بعد الحداثة، وأذكر ما قاله الباحث الفرنسي فريدريك لونوار في كتابه: «تحولات المقدس والروحانية الجديدة في الغرب» بأن الإيمان لم ينقرض من الغرب بعد انتصار العلم والتكنولوجيا على عكس ما نتوهم، وتؤكد الإحصائيات أن غالبيتهم يؤمنون بالله؛ لكنه إيمان حر ناتج عن تجربة شخصية لا عن إكراه اجتماعي، وفي السنوات الماضية راحوا يفكرون في تجاوز الحداثة إلى ما بعد الحداثة من أجل المصالحة بين العقل والدين من جديد.
أذكر ذلك وأنا لا أدعو لاستنساخ تجربة الغرب في علاقته بالدين، وإنما للاستئناس بها في تحديد علاقة الدين بالدولة والسياسة في إطار بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة.
إن الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة، وبهذا الفهم والإدراك نؤكد حقيقة الدين وسموه وعلوه في عقولنا ووجداننا وحياتنا لتعود أمتنا إلى سابق مجدها وتألقها في عالم لن تستطيع العبور منه إلى المستقبل إلا إذا امتلكت العلم والتكنولوجيا.
وعلينا أن نقر بوجود تشوهات في الخطاب الديني الموروث بسبب التخلف في فهم النصوص الدينية، ولا بد من التأسيس لخطاب ديني جديد وفقه جديد في الشريعة الإسلامية انطلاقاً من أن النص القرآني ثابت لا يتغير، أما تفسيره وفهمه، فيمكن أن يتغير من خلال قراءة عصرية عقلانية متأنية يقوم بها جمع من كبار الأئمة والعلماء، وأنا هنا لا أتحدث عن الآيات القرآنية قطعية الدلالة أي المحكمات، وأعتقد أن تجديد الخطاب الديني سيجيب عن تساؤلات عديدة لها علاقة بالدين والحياة من أهمها ما يتعلق بضبط العلاقة بين الدين والدولة، ومفهوم الجهاد في الإسلام، وغير ذلك من الأمور.
لقد جاءت الرسالات السماوية الثلاث ضم إطار دين واحد هو دين التوحيد، وعلى الدعاة أن يتبعوا خطاباً لا يستفز أحداً يكون فيه العلم هو الرابط الأساسي بين الدين والعقل، والتأكيد أن الحساب على الكفر والإيمان لله وحده.
أخلص إلى القول إن الصيغة الأمثل لبلادنا هي الدولة المدنية الديمقراطية التي تجعل الفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع، وهذا وارد في دساتير غالبية الدول العربية، وتصون حرية المعتقد، وتحترم جميع الأديان السماوية، وتكفل حركة القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام، وتراعي الأحوال الشخصية للطوائف الدينية.
وأعتقد أن هذه الصيغة هي الأمثل لفصل الدين عن السياسة وضبط العلاقة بين الدين والدولة، وتطبيق الشريعة برؤية عصرية تحافظ على أصول الدين ومقاصده وتخلصه من الشوائب والنتوءات التي لحقت به عبر التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن