من دفتر الوطن

لغة رابعة

| حسن م. يوسف 

كتبت سيدة تحت صورة ابنها في الفيس بوك العبارة التالية: «تئبرني يا ألبي». وهي تقصد العبارة الشائعة: «تقبرني يا قلبي». إلا أن الكلمات عندما تكتب هكذا تأخذ معنى مغايراً تماماً، ففعل أَبَرَ، على ذمة لسان العرب، لا علاقة له بفعل قبر إذ يقال: أَبَرَ النَّخل: لَقَّحَهُ. وأَبَرَ الزّرعَ: أَصلحه، وأَبَرَ العَقربُ، والنَّحلة فلانًا: لَسَعَتْه، وأَبَرَ الحَيَوانَ: أَطعمه الإِبرةَ في العَلَف ليقتله، وأَبَرَ فلانًا: آذاه واغتابه، وأَبَرَ بين الناس: نَمَّ عليهم!
أما الأَلْبُ فهو القوم يجتمعون على عداوة إنسان، ويعني أيضاً: ميل النفس إلى الهَوَى، وشدَّة الحرِّ والعطش، وشدة الحُمَّى، والألبَيُّ هو من لا يُعرف أصَله، أما الأُلْبَةُ فهي المجاعة الشديدة! ولو جمعنا كلمتي «تئبرني يا ألبي» إلى بعضهما سنحصل على تشكيلة من المعاني جميعها لا تسر الخاطر!
أرجو ألا يفهم من كلامي هذا أنني ضد العامية بالمعنى المطلق، فالازدواجية اللغوية موجودة في كثير من الثقافات، وظاهرة العامية اللغوية توجد في معظم البلدان إلى جانب الفصحى، ولا أجد، شخصياً، ما يمنع من استخدام العامية في حوار الأعمال الأدبية والفنية، بغية تعزيز الخصوصية البيئية، وإبراز تمايز الشخصيات، إلا أن استخدام العامية في كل الأنواع الكتابية أمر يثير إشكالات جدية.
لا شك أن القرآن الكريم قد حفظ العربية الفصحى كلغة للكتابة طوال قرون عديدة، وحال دون تشظيها وتحريفها إلى حد بعيد. غير أن هذا لا يعني أن الفصحى كانت سائدة دائماً، فبعض الكتاب العرب كانوا يزركشون نصوصهم بين حين وآخر بالتعابير العامية على سبيل التنويع حيناً، والفكاهة حيناً آخر.
إلا أن الكتابة بالعامية الخالصة ظلت أمراً مستنكراً إلى أن روج لها المستشرقون الذين جاؤوا للتمهيد للغزوات الاستعمارية، وأول من دعا للكتابة بالعامية مهندس الري البريطاني وليام لكوكس، الذي نشرت محاضراته في مصر عام 1893 ثم حمل لواء هذه الدعوة القاضي البريطاني ويلمور، الذي ناشد المصريين في عام 1951 أن يقوموا بإصلاح لغتهم من خلال التخلي عن العربية الفصحى وكتابة كلامهم العامي كما ينطق، وقد تبنى بعض المصريين هذه الدعوة وبرروا موقفهم من هذه اللغة الثانية بكونها حية، مكثفة، ودائمة التطور. ولا يزال هناك في مصر، حتى الآن، من يؤيدون ويمارسون الكتابة بـ(المصري)!، بل هناك قسم في موسوعة ويكيبيديا يعتمد المصرية الدارجة في كتابة بحوثه ومقالاته!
وقد ترافقت دعوات الكتابة بالعامية في منطقتنا مع دعوات لكتابة العربية بالحروف اللاتينية بحجة تيسير كتابتها وقراءتها، إلا أن هذه الدعوات تراجعت نسبياً وحلت محلها دعوة لتيسير العربية من خلال إشاعة اللغة الثالثة، أي الفصحى المبسطة، في الفن ووسائل الإعلام.
تمتاز اللغة العربية الفصحى بأنها ذات طبيعة قياسية محكومة بنظام لغوي مُعرَب يضبط المعنى، أما العامية فهي عاميات من دون حدود، إذ إنها تختلف من حي إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى ولا تعبأ بقواعد الإعراب في معظم الأحيان.
في ظل هذه الازدواجية يعيش الطفل العربي حالة من التشظي «بين عامية لا يحسن التفكير عبرها لخلوها من الأنماط الفكرية الإبداعية»… «وفصحى لم يتقنها ليقوى على التفكير من خلالها».
ثمة في لغتنا العربية الفصحى بعد آخر يمكن اعتباره مشروع لغة رابعة، إذ تتغير معاني المفردات الفصيحة من بيئة لأخرى فالطَّرَشْ في مصر يعني التقيؤ والغثيان، والمَلْيَانْ لا يعني الممتلئ بل الرصاص، والناصح ليس السمين بل الذكي، والدولاب ليس العجلة، بل الخزانة! وتباينات المعاني بين بلد وآخر قد تسبب المشاكل أحياناً، فإذا زرت تونس أنصحك بألا تقول لأحد: «الله يعطيك العافية» فالعافية في تونس تعني النار! كما أوصيك بعدم وصف أحد من الناس بأنه «حساس» لأن الحساس عندهم هو الشاذ جنسياً!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن