ثقافة وفن

أين مشروعنا الثقافي لتدارك ومعالجة أسباب وتداعيات الأزمة؟ … ماذا عن الدور الذي تؤديه الثقافة بمختلف مؤسساتها لإنجاز المشروع السوري القادم؟

| هيثم يحيى محمد

نعتقد جازمين أن الخلل الثقافي والفكري والتربوي والاجتماعي من بين الأسباب الرئيسية للأزمة التي تعرضت وتتعرض لها سورية منذ بداية 2011 حتى الآن.. ونعتقد أيضاً أن تدارك تلك الأسباب ومعالجة الآثار والتداعيات التي خلفتها الأزمة والحرب العدوانية علينا يتطلب مشروعاً ثقافياً تضعه وتتابع تنفيذه وزارة الثقافة بالتنسيق والتعاون مع الوزارات والجهات العامة والأهلية الأخرى ذات العلاقة.. والسؤال الذي توجهنا به لعدد من المفكرين والمثقفين في طرطوس هو (في ضوء الأزمة التي دخل فيها بلدنا بأسبابها ونتائجها والحرب العدوانية التي تتعرض لها وتداعياتها.. برأيكم ما المشروع الذي يجب أن تضعه وتنفذه وزارة الثقافة بالتعاون مع الوزارات المعنية الأخرى في الدولة لمعالجة تلك الأسباب والنتائج والتداعيات؟ وما ملاحظاتكم ومقترحاتكم في هذا المجال؟).
وفيما يلي الإجابات التي وردتنا منهم:

الموسوعة السورية

الدكتور جورج جبور- الباحث: أعالج هذا الموضوع باختصار شديد معالجةً منحازةً إلى الجانب العملي.
عامنا هذا هو العام المئة للتحرر من الاحتلال التركي.. رفع العلم العربي في دمشق يوم الأول من الشهر العاشر عام 1918، من الواجب الاستفادة من المناسبة لدعم الشعور بالمواطنة، وأول المواطنة معرفة الوطن، وهو هنا المساحة الجغرافية التي تشكل الدولة السورية. ولا يخلّ هذا التحديد للوطن باستحقاق القول بوطن عربي.
يصح من وزارة الثقافة إن تعتني بالمناسبة.. أحد أساليب العناية زيادة علمنا بأنفسنا.. يصح من وزارة الثقافة إصدار جدول بالتطورات السورية منذ عام 1918 حتى الآن. يصح منها تبادل الرأي مع المهتمين بشان كيفية التعامل مع مئة عام من سورية المعاصرة.
يصح منها التفكير بوضع ما أدعوه «الموسوعة السورية».. ذات يوم قبل ما يقرب من نصف قرن، طلب مني إبداء الرأي في الموسوعة العربية، أيدت الفكرة بالطبع لكنني قلت أيضا إن علينا الاهتمام بالدولة السورية وإحداث موسوعة سورية تجدد دوريا وكلما دعت الحاجة تضم وثائق دولتنا الأساسية وأهم أحداثها السياسية والحضارية.
وفي مناسبات كثيرة دعوت إلى تجاوز المحظورات في علمنا بأنفسنا، والى مخاطر ترك هذا العلم بأيدي غيرنا، بحجة أننا بذلك نحافظ على وحدتنا الوطنية، وكان من نتيجة ذلك أننا أخذنا عن غيرنا علمنا بأنفسنا، وكان ما كان من انتفاع العدوان بجهلنا حقيقة أحوالنا.
وتطول قائمة الممكنات المستحسنات ولا ريب أنها تطغى على ما يتوافر من قدرات، ثم لا ريب أيضا أن وزارة الثقافة ليست وحدها المسؤولة عن تحسين علمنا بأنفسنا.. يتجاوز هذا الأمر وزارة الثقافة إلى السياسة العامة للدولة.
ولأختم بالتفاؤل..

ما لله لله وما لقيصر لقيصر

د. إبراهيم إستنبولي (كاتب ومترجم) قال: «ما لله لله– وما لقيصر لقيصر».. أصدقك القول، أخي وعزيزي المواطن السوري، وأعبِّر عن شكوك كبيرة وعميقة وجدّية عندي بأن السلطة القائمة ممثلة بالحكومة وليس بوزارة الثقافة وحسب أو بمجموع الوزارات، غير قادرة أو أنها لا تريد ولا حتى تفكِّر بوضع برنامج للخروج من الأزمة التي وصلت إلى حدٍّ خطير لا يمكن للإنسان أن يتنبأ بعواقبه في المستقبل..
وأنا أعتقد أن الحكومة ولأسباب جوهرية تتعلق بطبيعتها البنيوية لا تبحث عن وضع حلول قريبة ولا حتى بعيدة المدى للنهوض بالإنسان السوري وبالوطن السوري بعد كل الذي عاناه الوطن والشعب من إرهاب ما كان يمكنه أن ينشأ لو لم تتوافر له بيئة حاضنة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا.
لذلك فأنا لستُ متفائلًا، وأرجو المعذرة، بأن ما تفعله الجهات الرسمية يصب في طاحونة البناء الذي ينشده كل سوري شريف يريد لهذا الوطن أن يبلسم جراحه وأن يرمِّم آماله وأن ينظر إلى غدِه بعين مفعمة بالأمل.
وكيف يمكن لنا أن نأمل خيراً من هذه الحكومة وهي لا تولي الحد الأدنى من الاهتمام لما يؤسس لفكرة المواطنة والدولة المدنية بعيدًا عن أي مذهبة أو أسلمة للحياة المجتمعية؟!
لذلك، ما لم تقم الدولة بالفصل بين السلطات وما لم تلتزم بدستور مدني يفصل الأمور العبادية عن الأمور الدنيوية وفق مبدأ «ما لله لله– وما لقيصر لقيصر»– فلا أعتقد أنه ثمة فائدة من الحديث ولا من الكتابة في هذا الشأن.

فصل الدين عن الدولة وحرية الرأي والإبداع

الأديب أحمد يوسف داود قال: أعتقد أن الفعاليّةَ الثقافيةَ عُموماً هي فَعاليّةُ (صِناعةِ وَعيٍ عامٍّ) يستجيبُ للتحدّياتِ الحَيويّةِ المَطروحةِ على مُجتمعٍ ما، في (شروطِ وجودِهِ) المُعايَنةِ.. وهيَ فعاليةٌ تمسُّ دائماً قضيّةَ بَقائِه أو قضايا استِمرارِهِ وارتقائِهْ.
وأعتقِدُ أنّ وَعيَنا العامَّ لوُجودِنا الراهنِ كسوريّينَ، هو وعيٌ يُعاني من (أزمةٍ بُنيويّةٍ) شاملةٍ ناتجَةٍ ـ إجمالاً عن الجَمعِ القَسريِّ بينَ (مُكَوِّنَينِ) متناقضَينِ بحدّةٍ هما:
1- المَوروثُ الغيبيُّ المُتواترُ عَبرَ أربعةَ عشرَ قَرناً، بيقينياتِهِ القطعيّةِ الجبريّةْ وبما فرّعَهُ (الفِقهُ السلطويُّ) عن تلك اليقينيّاتِ من تفصيلاتٍ تسويغيةٍ متراكِمةٍ خِلالَ المَراحِلِ المُتواليةِ في تلك القُرونْ.
2- ما فرضتْهُ ديناميّاتُ حَركةِ الواقِعِ الحديثِ ونَواتِجُها- في ظلِّ الاستعمارِ الرأسماليِّ الأوروبيِّ، وفي فترةِ الحَربِ الباردةِ، وفترةِ ظهورِ الإمبريالية الجديدةِ المُتوحّشةِ ـ من نُثارِ أفكارٍ مُناقضةٍ أصلاً لذلك الموروثِ، ومن تأثيراتٍ مُعقّدةِ التركيبِ على وعي الشُّعوبِ في البُلدانِ التي كانَت تُسمى في مرحلةِ الحربِ الباردةِ باسم (العالمِ الثالث)، حيث لاتنفعُ (الاستسلاميّةُ الاعتقاديّةُ الغَيبيّةُ) بشيءٍ تَقريباً في مُواجَهةِ الضراوةِ الوحشيّةِ للإمبريالية الجديدة، وأسلحتِها المعرفيّةِ والتقنيّةِ، ونواتِجها المُختلفةِ المُهيمِنةْ، ومَشروعاتها النّهّابةِ التّدميريّةْ.
ولقد كشفت الحَربُ الدائرةُ على سورية منذ أكثر من سبعِ سنين مدى عُمقِ هذه (الأزمةِ البنيويّةِ).. وحُجومَ مُنعَكساتِها الاقتِصاديّةِ- الاجتِماعيّةِ عُموماً في سعَةِ الخرابِ العامِّ الذي نَتجَ عنها في مُختلفِ المَجالاتْ، كما كَشفتْ عُمقَ الحاجةِ إلى تبنّي وتطويرِ مُستوىً جديدِ من (الوَعيِ العامّ) الأكثرِ نجوعاً في ضَمان البقاءِ والارتقاءِ المتوازنينِ.. وفي رأيي، أنّ أولَ ما يجبُ إقرارُهُ في الطريقِ إلى ذلك هو:
ـ فصلُ الدّينِ عن الدولةِ فَصلاً مُلزِماً يَضمنُ (حُريّةَ الاعتقادِ الشّخصيِّ) من جهةْ، وحُريّةَ الرأيِ والفِكرِ والإبداعِ في مُستَوى الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديّةِ والسيّاسيّةِ من جِهةٍ أخرى، مالم يكنِ الرّأيُ والفكرُ مُخِلّينِ فعليّاً بشُروطِ ضَمانِ البَقاءِ الناجعْ.. فتكونُ الديموقراطيةُ بذلك (ناتِجاً وأسلوبَ عَملٍ) اجتماعيَّينِ- سياسيَّينِ، ويكونُ القانونُ راعِياً حَقيقـيّاً لقَضايا إعادةِ الإعمارِ والبِناءْ بالشروط المُثلى المُتاحةْ.
وهذا كلهُ بالطبعِ يُلغي تغييبَ أيِّ أحدٍ أو أيِّ فئةٍ أو أيِّ جَماعةٍ مُجتمعيّةٍ عن ساحةِ الفعلِ الإيجابيِّ المُنتِجِ.. والشرحُ التفصيليُّ يَطولْ.
إنّ أيّ وزارةٍ أو جِهةٍ إداريّةٍ لا يُمكنُها ـ في شُروطِ وُجودِها الراهن ـ أنْ تقومَ بعبءِ ذلك أو بعضِهْ، لأنّ خلقَ مستوىً جَديدٍ وكُفءٍ من (الوَعيِ العامّ) هو مَسؤوليّةُ الجَميعِ: الشعبِ والدّولةِ معاً. وإن صحّ ما قلتُه هنا أو بعضُهُ فإنّ الأمرَ سيَحتاجُ إلى استِنفارٍ عامٍّ لسائرِ منْ لدَيهِمُ القُدرةُ على إقْرارِ (التأسيسِ) ـ مُجرّدِ التأسيسِ ـ للمُستوى الجَديدِ المَطلوبِ من ذلك الوَعيِ المطلوبْ.
ويبقى أخيراً هذا التساؤل:
هل هذا الذي ذكرتُهُ ممكنٌ فِعليّاً في سياقِ حركةِ وُجودِنا السُوريِّ الراهنْ؟!.
نَظَريّاً: نعمْ. أمّا عمليّاً فإنّ إمكانيّةَ تَحقُّقِهِ هيَ رهنٌ بمَدى حِرصِنا نحن كَسوريينَ على ما سمّيناهُ قبلاً (بقاءَنا الناجِعْ)!.

خطة شاملة

الكاتب حيدر حيدر قال: المسألة أو الأزمة السورية المستعصية محلياً ودولياً هل تعتقد أن بإمكان المثقف السوري اقتراح حل لهذه الأزمة؟
الحل يحتاج إلى خطة حزبية شاملة بالمشاركة مع المسؤولين في الدولة ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
الحل أكثر تعقيدا ومسؤوليته في يد من بيده الحل والربط لا في يد المثقف المهمش والذي لا حول له.

حلّ ثقافي متكامل وهذه أدواته وآليات تنفيذه

الأديب المهندس غسان كامل ونوس: ليس جديداً ولا نافلاً القول إنّ الثقافة هي الحصانة الحقيقيّة للكائن البشريّ، وهي الضامن الفعليّ لوطنيّته، والراصد الذاتيّ لقوامه ومتانته وبقائه قائماً بذاته، متكاملاً مع أبناء وطنه، متماسكين في كتلة قادرة على المقاومة، مهما كانت القوى الخارجيّة المعتدية، التي قد تختلف، وتتباين، وتتزامن، وتتناوب، وتتشارس، وتتلاين، وتتلوّن..
مثلاً؛ قد يكون الهجوم بسوائل تذيب الذرّات الهشّة في الكتلة؛ ما يمكن أن يسبّب فجوات، قد ينفذ منها الأعداء، أو تنهار الكتلة، وهذا ما يقاوَم عن طريق الإمكانيّة الذاتيّة للذرّات- الكائنات.. وقد يكون الهجوم جارفاً، لا تفيد إمكانيّة الذرات وحدها، فتقاوم الكتلة المتماسكة ذلك.

ما الحل الثقافي؟

يمكن تلخيصه كما يلي: اكتناز- تفاعل- حيويّة- حلّ وبالاستفادة من الهندسة المائيّة، يمكن تمثيل ذلك بـ:(حوض صباب= هطل+ مياه جوفية+ روافد+ جريان.. يؤدي إلى توافر المياه، التي منها كلّ شيء حيّ).
كلّما اتّسعت مساحة الحوض الصباب، ازدادت إمكانيّة الحصول على الموارد، التي تمتصّها الأرض حتّى تُشبَع، وبعدئذ تبدأ بإطلاقها أو إخراجها على شكل جريان حرّ من الينابيع، وتتعدّد الروافد، التي يمكن أن نستفيد منها، أو تذهب هباء.. ويمكن أكثر الاستفادة من المياه الجوفيّة عبر البحث أو السبر للوصول إلى ما تعذّر خروجه؛ لأسباب تتعلّق بطبقات الأرض، وطبيعة الطبقات الحاملة، والمسارب التي يمكن أن تكون متعثّرة؛ فنساعد على إيصال المياه إلى سطح الأرض، ومن ثمّ يجري العمل على الاستفادة منها، أو تضيع الإمكانيّات مرّة بعد مرّة.
من الواضح أننا مثّلنا الثقافة أو القدرات الثقافيّة بالمياه، ومن ثم تكون البيئة هي الحوض الصباب، والهطل هو ما يمكن أن يُضخّ فيه أو يزوّد بمعلومات وخبرات وشهادات وعلوم ومعارف، مع الإشارة إلى الانفتاح على البيئات الأخرى القريبة منها والبعيدة.. ويمكن استكمال التمثيل حول الطاقات الكامنة، والطبقات، والينابيع والروافد.. بما لا يخفى.

عناصر الحلّ الثقافي

– الكوادر البشرية… كرة الثلج تتزايد
الأدباء والفنانون والمفكّرون والمثقّفون الآخرون المعروفون المنتسبون إلى اتّحاد الكتّاب العرب، ونقابة الفنانين، ونقابة الفنون الجميلة وسواها، والعاملون فيها من المهتمّين بالشأن الثقافيّ، ومن هم خارج النقابات والمؤسّسات؛ لم ينتسبوا بعد، أو لا يريدون الانتساب.
هناك كثيرون من أصحاب الإمكانيّات الثقافيّة، ويرغبون في الإسهام بأيّ عمل ثقافيّ، وقد لا يتبيّنون الطريقة المناسبة، وقد لا يجدون من يدعوهم، أو يرحّب بهم، أو يستمع إليهم، أو يعطيهم فرصة للتعبير عن رغباتهم وقدراتهم؛ وقد تنقصهم المبادرة، أو الجرأة، وينتظرون من يحفّزهم؛ لا شكّ في أنّ هناك مستويات متفاوتة؛ لكنّ الاستفادة من الجميع ضروريّة، وفي مواقع وسبل وأعمال مناسبة لكلّ منهم، مع السعي إلى ما يؤدّي إلى تطوير تلك المستويات، وهناك مهتمّون بالشأن الثقافيّ، ويمكن أن يسهموا في هذا المجال بإمكانيّاتهم غير الثقافيّة؛ إضافة إلى المهتمّين بالشأن الوطنيّ العام، ويرغبون في تأمين دعائم ومقويّات في أيّ ميدان، ويمكن أن يجدوا في هذا النشاط ما يفيد ويُغني.
باختصار؛ إنهم: المنتجون في الميادين والمسارات المتعدّدة للثقافة، وأصحاب المواهب، وأصحاب الخبرة، وأصحاب الإمكانيّة، والمهتمّون؛ أي الفاعلون، والمشاركون، والمتفاعلون.
-الأدوات: النتاج الأدبيّ والفكريّ والفنّي.. يمكن عرضه، وبيعه، والتبرع بثمنه أو استثماره بما يفيد هذا المشروع، أو أيّ مشاريع وطنيّة أخرى.
ويمكن أن يتمّ التبرّع بالكتب أو اللوحات، ممّن لديهم مكتبات شخصيّة أو تجاريّة، أو لديهم نسخ متعدّدة من كتب، أو لوحات، ويمكن أن يقدّموها بالطريقة المناسبة.
-الكتب: الدعوة إلى حملة للاهتمام بالكتاب، والاستعارة من المكتبات العامة، وقراءة الكتب عرضاً ودراسة نقديّة، وإقامة معارض كتب شبه مجانيّة؛ إضافة إلى التبرّع بالكتب والمجلّات والصحف الثقافيّة.
– منشورات وصور وإعلانات ودعوات.
– النشاطات في المراكز الرسميّة والمواقع غير الرسميّة؛ ولاسيّما في التجمّعات المهنيّة أو السكنيّة الدائمة أو الطارئة، والوصول الفعّال إلى القرى والأرياف مهما تباعدت؛ مع التشجيع على الحوارات، التي لا بدّ منها، والندوات والملتقيات، التي تطرح فيها أفكار ورؤى متعدّدة، يكون للمتلقّين دور مهمّ في سياقاتها ومتونها.
وفي الطريق إلى إقامة المكتبات العامّة في كلّ قرية وحيّ وتجمّع عمّالي وسكنيّ، لا بدّ من الاستفادة من الإمكانيّات الرسميّة المتمثّلة بالمراكز الثقافيّة ومكتباتها، ومنابرها، وقاعاتها، والمقرّات الحزبيّة، والمدارس، والمواقع الرسميّة الأخرى؛ إضافة إلى مواقع أخرى وإمكانيات أخرى.. لكن بآليّة مختلفة، وسبل أكثر حيويّة وتفاعلاً.
إنّ من الأهمّيّة القصوى أن تتغيّر العقليّة، التي تسهم في هذا الحلّ؛ إشرافاً وتنفيذاً، وأن تنفتح وتتعامل بأريحيّة وثقة، وتستخدم أساليب متجدّدة، للوصول إلى الأفضل باستمرار.
ولا أعتقد أنّ أحداً يشكّك في أنّه كلّما زاد الحوض الصبّاب لأيّ مجرى مائيّ، ازداد الرصيد المخزون والمكشوف لهذا المجرى، ومن ثم تزايد المشتغلون بالثقافة، المنشغلون بها، في هذا الحيّز الجغرافيّ أو ذاك، وهذه البيئة المحدّدة أو تلك المفتوحة، وتضاعف الإحساس بالمسؤوليّة، والانتماء والحرص على المصير الجمعيّ، واحترام القوانين وتطويرها، وازداد الرصيد المعرفيّ للناس، وارتفعت احتمالات تشكيل الوعي الإنسانيّ، وتعالى المستوى المعنويّ للحياة المعيشة، واختلفت النظرة إلى الكثير من الأشياء؛ وجوهرها أهميّة المشاركة الفاعلة والوجدانيّة في تطوير الواقع، وإغنائه، وارتقائه، وأفراح الناس وأتراحهم.
ومن الطبيعي أن تختلف الطبيعة الأرضيّة والسكّانيّة في أركان الحيّز أو مَدَياتِه، فيختلف العطاء، وتتفاوت الاستجابة؛ كما قد تختلف الغزارات الهاطلة في جنبات الحوض الصبّاب، وتختلف درجات النفاذيّة والجريان والتجمّع المكشوف أو الجوفيّ.. ولا بدّ من معاينة هذا الاختلاف وهذه الفروقات، والسعي للتعويض، والاستزادة، وسدّ الثغرات، والحفظ المناسب للمياه المهدورة.
كيف؟ هو السؤال الأصعب في هذا الطريق (الحل)؛ فالإجابة عنه تقتضي الرؤية المتبصّرة لمفاصل ما نقدمه من أفكار في إطار (المبادرة)، وتفاصيلها، وعناصرها، وآليّات سيرورتها، وهذا ما لا أزعم أنّه بيّن جليّ؛ بل يتطلب المشاركة من الذين يستطيعون تقديم ما يفيد في ذلك؛ وهذا جزء من أسباب طرح هذه المبادرة.
ولا بدّ من التأكيد أن التحرّك الشامل والمدروس للمضيّ في هذا الحلّ، يفترض أن يتسارع، من دون أن ننسى أنّه مشروع حياة ومصير، وهو ليس طارئاً أو عارضاً أو راهناً؛ بل يبدأ، أو بدأ في الماضي البعيد والقريب، ويستمرّ إلى ما لا نهاية؛ لأنّ هدفه مستمرّ في التقدم أمام الخطا، مهما تعجّلت، والغاية أنصع وأجلّ، مهما بلغ الإنجاز، وهو متصل مهما تقطّعت السبل، وتعكّرت المفازات، ولن يضعف بالتقادم، أو يهِن أو يهرم، مهما تقدّمت السنون.
ولعلّ التفكير في الإجابة عن السؤال (كيف؟) إسهاماً في المبادرة.
إنّ المطلوب أن يعمل الجميع في الوطن من أجل الجميع في الوطن، ومن ثمّ،العالم؛ لأنّ خير الوطن يعمّ على الناس في القريب والبعيد؛ ولاسيما بعد الإنجازات الهائلة في الاتّصالات؛ إنّ هذا الخير العميم، يمكن أن يتحقّق بالثقافة وفي الثقافة، ومن الصعب؛ بل من المستحيل تحقيقه في أيّ قطاع آخر؛ فليس ممكناً أن يحمل الجميع السلاح، ولا أن يعمل الجميع في الزراعة، أو الصناعة، أو التعليم، أو البناء.. ويمكن لجميع العاملين في هذه القطاعات كافة، أن ينمّوا معارفهم وأذواقهم واطّلاعاتهم وقراءاتهم ومواهبهم.
إنّ الثقافة مهمّة وضروريّة لكلّ فرد، وليس من مصلحة أحد أن تسقط أهميّتها لديه؛ فهو يحكم على نفسه بالسُّبات والموات.
لذلك هناك أشكال متنوّعة ومتعدّدة حسب الشريحة والموقع والظروف والشروط الموجودة، التي من المفترض تحسينها وتجويدها.
من هذه الأشكال ما هو معروف رسميّاً وخاصّاً، ومنها ما يُفترض أن يُختلق أو يُكتشف، وينمّى، وهو عمل حيويّ يحدث في أثناء المسير، من دون الاضطرار إلى التوقّف.
ولا شكّ في أنّه يكون أكثر تركيزاً في أماكن ومجالات، كقطاع التعليم في مختلف مراحله؛ مثلاً، ويُفترض أن يكون أكثر استثماراً في جيل الشباب.
إنّ العامل المثقّف يتعامل مع الآلة أو أيّ أداة أخرى، بشكل أكثر تفتّحاً واستيعاباً، والفلاح المثقّف يفهم المطلوب من أجل زراعاته ودوراتها أكثر من سواه، والجنديّ المثقّف يكون أكثر حرصاً على سلاحه وأسراره وزملائه، والمعلّم المثقّف يترك لدى طلّابه آثاراً لا تنسى، وقد يزرع فيهم حبّ المطالعة، ويحثّهم على إظهار مواهبهم وإمكانيّاتهم الحقيقيّة؛ أما الواقف على الحاجز، فتظهر ثقافته من خلال تعامله مع العابرين ملامحَ وألفاظاً ونبرات.. ناهيك عن الطبيب المثقّف، والمهندس المثقّف، والتاجر المثقّف، والموظّف المثقّف، والسياسيّ المثقّف الذي يستطيع أن يُقنع إذا ما اقتنع!
ولا بدّ من تأكيد أهمّيّة تبنّي هذا الحلّ فرديّاً وجماعيّاً، من الجهات العامّة والخاصّة، والترويج له إعلاميّاً، وبشكل واسع ومركّز ومتواصل، وبأساليب حضاريّة سلسة محبّبة.

متى؟… متى نبدأ؟ لقد بدأنا..

– نحن لا نبدأ من الصفر، ولا نتحرّك في فراغ..
هناك بنية ثقافيّة تحتيّة منجزة خلال عقود؛ سواء عن طريق مؤسّسات ثقافيّة ونقابات ومنشآت ثقافيّة.. أم عن طريق وزارات وإدارات محليّة، وهي تعمل بهذا القدر أو ذاك؛ الأهمّ من كلّ ذلك أنّ لدى الشعب السوريّ عراقة في التاريخ والمشاركة في إنجاز الحضارة، والإنتاج الثقافيّ، وهذا ما أدّى إلى أن استطعنا الصمود والمواجهة، والاقتراب من الخلاص.
ويمكن استعراض بعض الظواهر الواقعيّة، التي تؤكّد متانة قوام الشخصيّة السوريّة:
-استقبال الشهداء باعتزاز وإحساس بالكرامة والإباء؛ لأنّهم يدافعون عن الوطن في جميع أركانه، ولعلّ وجود أكثر من شهيد في عدد من العائلات، يؤكّد هذا الرصيد.
– الحالة بين المقيمين والضيوف المهجّرين نتيجةٌ مهمّة، رصيد مهمّ.
– ثبات الجيش والشعب ضدّ الفتنة والانقسام.
– التقشّر (الانشقاق) القليل.
– التحوّل في المزاج العامّ لدى العديد من البيئات.
– انطلاق المصالحات واستمرارها.

يمكن أن نبدأ من خلال بعض الإجراءات الرسميّة:

– تفعيل النشاطات الثقافيّة الجدّيّة، التي لا تكون استعراضيّة وإعلاميّة وآليّة.
– تحريك الأرصدة الثقافيّة الرسميّة؛ سواء ما كان منها لدى المؤسّسات الثقافيّة، أو القطّاعات الأخرى، التي يوجد فيها رصيد للثقافة؛ ولاسيّما المدن والبلدان والبلديّات.
– إعادة النظر في الإدارات الثقافيّة، على أن يتمّ الاقتراح والتعيين وفق معايير تنطلق من الثقافة، وتنتهي بها، كالهاجس والمتابعة والمشاركة والممارسة والحيويّة، والمرونة الفكريّة، والقدرة على الاستيعاب والحوار، وتقبّل الرأي الآخر، والاهتمام بالمصلحة العامة..

– الاستفادة من الإمكانيّات الخاصّة في الجانب الثقافيّ بصورة مجدية، بشرط عدم استغلال ذلك في غسيل أموال أو استمرار نفوذ شاذّ، أو ظهور إعلاميّ تسويقيّ، أو لأسباب انتخابيّة.
ولا بدّ من تأكيد الأمور التالية:

– الحلّ الثقافي ليس بديلاً عن الحلول الأخرى؛ بل هو رصيد مساعد لها جميعاً. ومن ثم لا بدّ من استمرار القوّات المسلّحة في مواجهتها للإرهاب، حتّى القضاء عليه، مع مواصلة الحلّ الاجتماعي المتمثّل بالمصالحات، التي تتطوّر في كثير من المناطق السوريّة؛ إضافة إلى ضرورة المضيّ في الحلّ السياسيّ، بمشاركة أوسع لمختلف التيّارات الوطنيّة والأحزاب والشرائح والفعاليّات في العمليّة السياسيّة، وإدارة شؤون البلاد، ولاسيّما بعد إنجاز الاستحقاق الوطنيّ البالغ الأهمّيّة: انتخاب السيّد الرئيس بشار الأسد لولاية جديدة، مع ضرورة مشاركة المثقّفين بصورة أوضح في المرحلة القادمة.
– إنّ الثقافة فرض عين على كلّ مواطن؛ فأرجو من خلال هذا الحل، أن يفكّر كلّ منّا في ما يستطيع تقديمه؛ ابتداء من أسرته وحيّه أو قريته أو دائرته.. وصولاً إلى أبعد مدى.
ويمكن أن تتقدّم الاقتراحات والآراء مباشرة، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، مع اقتراح الآليّة والفعاليّة.
– ليست المبادرة الثقافيّة تنظيماً حزبيّاً، ولا تيّاراً سياسيّاً، ولا تحرّكاً فوضويّاً، وليست بديلاً عن جهة أو أحد؛ بل هي رغبة ثقافيّة وطنيّة خالصة لعيون أبناء الوطن ووفاء لشهدائه ودعم معنوي للجرحى والمصابين والمحتاجين..
يمكن أن نبدأ بأضعف الإيمان: من النفس الأمّارة بالأحاديث السلبيّة وتعميم الممارسات الشاذّة، وتعويم السطحيّين والفارغين والمدّعين؛ لنتخلّص من هذا، ولنقمْ بتصحيح بعض المصطلحات، ورفض استخدام العبارات الفتنوية، حتّى في إطار مواجهتها، وتكريس الممارسات الحيويّة المنتجة، وتعميم الحالات الإيجابيّة؛ ولاسيّما البطولات الأسطوريّة للجيش العربي السوريّ وروافده، والمبادرات الإيجابيّة المتنوّعة في أيّ مكان من بلدنا الغالي سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن