ثقافة وفن

الأرابيسك وأسرار المعاني الروحية للفن … ما وراء الظاهر للوصول إلى التجريد في ذهن المبدع للشكل

منير كيال :

قامت على يد شعوب المنطقة حضارة امتدت على ربوع العالم القديم وكان لهذه الشعوب جذور تنطبع بطراز متميّز، أكان ذلك عند المعماريين والنساجين وصناع التحف المعدنية والخشبية والزجاجية وزخارفها، أم في تكفيتها (التنزيل) بمواد أو معادن ثمينة كالذهب والفضة، لكن ذلك ما لبث أن انطبع بالمعايير الإسلامية مع تمسّك بالجذور والأصول المهنية.

وهكذا طلع علينا فن جديد بثوب جديد مطبوع بطابع البلاد الجديد، فن يكره الفراغ في أعماله وينبو عن رسم كل ذي روح، وقد تمخض عن هذا فن يعبّر عما يعتلج في صدور المبدعين مطبوع بطابع إسلامي، فن انعدم به البعد الثالث وانطبع بطابع الأشكال الهندسية والأزاهير والتوريق والخطوط الموزونة، وفق قواعد للرسم لا يمكن للصانع أو الفنان أن يتخطاها، لدرجة أن الانحراف بزاوية صغيرة يفسد العمل رأساً على عقب.
فالفنان يريد الحرية، لكن التديّن دفع بهذه الحرية إلى منحى يحمل في أعطافه الأبعاد الجمالية والقيم الروحية، فكان له أن يحلق ويبدع، دونما التقيد بأي شكل واقعي ملموس، يجرد بالأفكار ويبدع في رسوم نباتية وأشكال هندسية وزخارف كتابية يجسد فيها ما يدور في رأسه بتأنق وإبداع في تكوين جمالي يكره الفراغ، ويجنح إلى ملء مهاد العمل بسمفونية من صور شتى من التصاميم الدقيقة، أكان ذلك في التذهيب أم القاشاني أم في العمارة والنحت والحفر على الخشب والحجر والمعدن، في محاولة لتجسيد الجمال عن طريق الذهن وهذا ما اصطلح على تسميته بالأرابسك، وقد أعجب الأرابسك الفنانين الغربيين بزخارفه، وعلى الرغم من عدم فهمهم لأسرار المعاني الروحية للزخارف والكتابات العربية، فقد وجدوا بالحروف العربية الكثير من الصفات الزخرفية والشكلية والجمالية، فاستخدموا الخط العربي في تشكيل التصاميم الزخرفية للمنمنمات الحرفية والتحف والمعالم العمرانية وقطع الأثاث، وهذا الانجذاب إلى الكتابات العربية جعل الأوروبيين ينقلون تلك الكتابات، من دون معرفة ما تحمله من المعاني، فقد ذكر توماس أرلوند في كتابه تراث الإسلام:
إنه عثر في إيرلندا على صليب يعود إلى القرن التاسع عشر، وقد نقشت البسملة على زجاجة في وسطه بالحرف الكوفي، ما يدل على أن الصانع الناقش حين نقش تزيينات ذلك الصليب، كان جاهلاً الفكرة الرئيسية من ذلك النقش.
وهكذا فقط أطلقت كلمة أرابسك على كل عمل فني يضم تكوينات زخرفية تتشابك فيها العناصر الزخرفية، ولو كانت غير إسلامية، إذ يكفيها التشبه بما أبدعه العرب وقد ظلت فنون الأرابسك التي تمثلت بالزخارف وتطبيقاتها محافظة على مكانتها وأصالتها الفنية، ولم ينافسها أي من الفنون المعاصرة لها، وكان الفنان في هذه الفنون يرمز في أعماله إلى الطبيعة، ويقارب بين ما يجول بخاطره وبين الطبيعة، فالنزوع إلى التجريد برغبة جامحة تتوثب فيها الأفكار، وهكذا فإن التجريد في مضمونه إنما هو تجريد للطبيعة والحياة، وبالتالي فإن الأرابيسك ليس مجرد زخارف، إنه تزاوج بين الخط والأشكال المنسجمة والحيوان والنبات.. وهذا العالم من الأفكار أكثر من خطوط أنيقة موزونة، إنها تجريد للفنان عن أفكاره، ومشاعره في إبداع فني متكامل متوازن، وألوان تكاد تنقلك إلى عالم ذلك الفنان بما يعتلج في رأسه من أفكار، مترجمة على مهاد اللوحة.
وهكذا فقد أصبحت فنون الأرابيسك، سمة من السمات الفنية التي تمثلت في الزخارف وتطبيقاتها، أكان ذلك في مجال العمران، أم الصناعات التقليدية الفنية من نسيج وخزف وزجاج وأوانٍ وأدوات معدنية، وما جعل فن الأرابيسك يحافظ على نهجه ومكانته بل أصالته الفنية أيضاً، ولم ينافسه أي نهج من الفنون وكان الفنان في الأرابيسك لا يني يرمز إلى الطبيعة، أو يقارب بين ما يجول بخاطره وبين هذه الطبيعة، حتى لكأن التجريد عند هذا الفنان، رغبة جامحة تتوثب فيها الأفكار، فالتجريد والحال هذه عنده رغبة متأصلة لأنه تجريد للطبيعة والحياة، ذلك أن الأرابيسك ليس مجرد زخارف، إنه نوع من الخط والأشكال المنسجمة والدوائر والحيوان والنبات.. وهذا العالم من الأشكال أكثر من خطوط أنيقة موزونة. وعلى المرء أن يغوص إلى ما وراء الظاهر ليصل إلى التجريد الذي عناه المبدع للشكل أو الموضوع، والارتقاء بذلك إلى الحالة الصوفية للإيقاع الموقع وللإنشاء المتناغم.. إلى الخطوة التأملية التي تمخض عنها الشكل أو الموضوع.
وهنا الإطار الذهني للأرابسك قد يكون غريباً عن البعض الذين على غير حالة من التواصل مع الحالة الروحية التي يعيشها الفنان المبدع لعمل من أعمال الأرابسك هذه، وهذا بالطبع ما يبعد هؤلاء عن المعاني العميقة لهذا الفن.
فخيار الفنان المبدع للأرابسك للتجريد كان منسجماً مع الفكر الإسلامي الذي كان في ذلك الحين يبتعد عن تجسيد كل ذي روح في عمل فني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن