ثقافة وفن

«الشامية» .. وليس «السامية»

في دراسة التاريخ العربي القديم، مازالت هناك إشكالات عدة، لم يجد لها علماء التاريخ مخرجاً، أو مصطلحاً يتفق عليه، ما يستدعي إعادة النظر في كثير من الآراء والتعريفات والاجتهادات التي تتفق مع العقل والمنطق والمنهج النقدي.. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من النقد الشديد الذي وجه إلى النظرية السامية، ما زلنا نستخدم في كتاباتنا وكتب التاريخ القديم مصطلح «السامية» الذي أصبح استخدامه «طبيعياً» في المؤلفات التاريخية، مع معرفتنا أن لهذه التسمية مدلولاً عنصرياً وعرقياً خرج من التوراة، وأن لهذه التسمية وظيفة سياسية سخرتها الصهيونية العالمية لخدمة مآربها الاستيطانية المغرضة.
في حديث مع الدكتور محمد محفل، أستاذ التاريخ القديم قال: «لاشك أن هذا المصطلح خاطئ، كما أنه عمم خطأ، وقد أخذ عن التوراة، من سفر التكوين، واعتمد مفهومه على أن الأقوام ككل تفرعت من إنسان واحد، ومعظم الأسماء التي ترد في تاريخ الهلال الخصيب لا تحمل مدلولاً عرقياً أو عنصرياً، بمعنى لا تعود إلى شخص أو قوم، واسم كنعان أو آرام أو آشور وحتى سام هي أسماء لها ارتباط بالبيئة والأرض والذهنية وربما تحمل طابعاً مقدساً.. والعلم يرفض هذا التفكير البدائي البسيط».
حسب هذا الطرح أضحت اللغة العبرية، أم اللغات المحلية القديمة، وهذا خطأ مقصود وكبير، لأن العبرية هي فرع من الكنعانية الوسطى، والآرامية جاءت متطورة أكثر من الكنعانية، وقواعد الآرامية قريبة جداً من قواعد اللغة العربية، حول هذا يقول الدكتور محفل، لقد ثبت أنه لا وجود للغة العبرية، والتوراة ذكرت ذلك.. ذكرت أنهم تكلموا «شفة كنعان» لذلك كل لغاتنا القديمة يجب أن ندرسها انطلاقاً من اللغة العربية، التي جبَّت كل ما قبلها واحتوت الأكادية والبابلية والآشورية والكنعانية والآرامية، وكل من يبحث في هذا المجال عليه العودة إلى الأصل، إلى التراث اللغوي لبلاد الشام وبلاد الرافدين..
مصطلح «السامية» يقود إلى القول إن الكتابات العبرية هي أصل كتاباتنا القديمة، وهذا الطرح دحضه العلماء ولم يقبلوا به، لأنه لا وجود لشيء اسمه الكتابات العبرية، التي هي قبل كل شيء مشتقة من الحرف الآرامي المربع، وهذا مصطلح علمي متعارف عليه في جميع المراكز العلمية الأكاديمية، وهذا الحرف الآرامي بدأ يتطور في القرن الثالث قبل الميلاد. التوراة وضع نقلاً عن لف يوناني من القرن الثالث قبل الميلاد، والذي بين أيدينا الآن هو النسخة السبعينية التي ثبتت نهائياً في القرن الرابع الميلادي، وهو يتحدث عن أقوام يعود تاريخ وجودها إلى ما قبل هذا بنحو ثلاثة آلاف سنة، ونحن لدينا نصوص كتابية يعود تاريخها إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، اكتشفت في «إيبلا وماري وأوغاريت وبابل..» فكيف تكون العبرية هي الأصل، ونحن الأقدم منها بآلاف السنين؟!
الدكتور محفل، في أكثر من حديث، طرح مصطلح «الشامية» بدلاً من «السامية» ولهذا الطرح براهينه، فالشام لا يعني اسم «عنصر» أو «عرق».. إنه نابع من البيئة، كما أن إقلاب السين إلى شين وارد في لغاتنا المحلية القديمة سواء الأكادية أو البابلية أو الآرامية أو الآشورية أو الكنعانية، فنحن حين نقول «عسرة» فهي «عشرة» و«شمش» فهي «شمس» و«بيت شان» هي «بيسان».. والمنطق والعقل يجعلاننا نميل وننجذب إلى تسمية «شام» وليس سام، وإلى الهجرات الشامية وليس السامية.. ألم ينتقل المناذرة والغساسنة وكندة، وهم من اليمن بالأصل، نحو الشمال؟ وهناك نظريات معاكسة وهذا الأمر يحتاج إلى تحديد الفترة الزمنية، ولدينا في سورية مواقع يعود تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ شكّلت مناطق هجرات عدة عبر فترات متباعدة ربما تكون قد شكلت مراحل متقدمة من التطور الحضاري في المنطقة العربية، وهذا يحتاج إلى دراسات مستفيضة لتحديد من كان موقعه المنطلق والمركز الحضاري الأول، مع العلم أن هناك من يرجح أن حركة الهجرات كانت منذ القديم، حركة جولات مستمرة بين الجزيرة الشامية والجزيرة العربية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن