قضايا وآراء

حلٌّ سياسي وحربٌ على الإرهاب وما زال الأحمق ينظر إلى أصبعي

فرنسا ـ فراس عزيز ديب : 

في مقال الأسبوع الماضي، قلنا إن الحلول السياسية لكل هذا الجنون في المنطقة ما زالت بعيدة، ظنّ البعض أننا نقول هذا الكلام من منطلق التغريد خارج السرب، تحديداً مع ارتفاع نسق التفاؤل بعد كل الحراك الديبلوماسي الذي جرى.
الفكرة بسيطةٌ، وليست بحاجةٍ لتعقيدات، لكي تقتنع أن الحلول باتت قريبةً، عليك ببساطة أن تشرح لنا: ما المتغيرات التي حدثت والتي تُلزم الطرف الآخر «الأميركي حصراً… الباقي لا معنى لهم» بالخضوع لهذه المتغيرات، والبدء بدخول جنَّة الحل السياسي؟
هناك من يكرر معزوفة «الاتفاق النووي الإيراني»، ويصر بطريقةٍ أو بأخرى على أن يجعل من هذا الاتفاق سبباً حتى لإمكانية تحسن الكهرباء في سورية. لكن الواقع شيء والتمنيات شيء آخر، المشكلة دائماً أننا نأخذ الأمنيات ونحاول ربطها بما نقرؤه من أفكار تعززها، فنصوغ منها رؤىً سياسية لما هو آت، لكننا في الوقت ذاته نتجاهل ما يقوم الطرف الآخر بتسريبه أو نقله، حتى تصريحات الإيرانيين كانت واضحة، المفاوضات فقط على الملف النووي ولا علاقة لها بأي ملفٍ آخر، لكننا اختلقنا سياسة «ملفات من تحت الطاولة» وأقنعنا أنفسنا بها، والحقيقة أن الملفات التي تُمرَّر من تحت الطاولة يكون لها بوادر، بمعنى آخر يكون الحديث عنها في العمل الدبلوماسي بعدم نفيها وعدم تأكيدها، فهل ما زالت الصورة مبهمة عند البعض؟
زار وزير خارجية «آل سعود» موسكو، انتظر الجميع من هذه الزيارة مؤتمراً صحفياً «يُحلحل» الأمور، فجاءت النتائج بعكس ما يروّج أصحاب نظرية «الحل سلّة كاملة».
بواقعيةٍ تامة لو أن مملكة العائلة تحاسب غلمانها لأُقيل الجبير من اليوم التالي، حتى لو كان الجبير مكلفاً بقول ما يجب قوله، لكن كان عليه أن يخرجها بطريقةٍ أكثر دبلوماسية، فـ«لافروف» يتحدث عن إصرار روسيا بأن يكون القرار للشعب السوري، على حين الجبير يصرّ على أن لا مكان لقرار الشعب السوري، وأن المملكة تصر على «رحيل الأسد»، فإذا كان لا قرار للشعب السوري، فعمَّ تدافع مملكة «آل سعود»؟ حال لافروف مع الجبير انطبق عليه الحكمة الشهيرة: «أنا أشير للقمر والأحمق ينظر إلى أصبعي».
أحسن الزملاء في «الوطن» عندما اختاروا عنواناً عريضاً يتحدث عن ترجمة العصابات المسلحة في سورية لحديث الجبير في اليوم التالي، بعد أن أمطرت القذائف الإجرامية سماء حلب ودمشق واللاذقية راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى. هذا الرد لا يبدو ترسيخاً لكلام الجبير فحسب، لكنّه كذلك الأمر جاء رداً على تمسك الروس بموقفهم الداعم للشعب السوري.
أما آلية الرد فكشفت أمراً كانوا يحاولون إنكاره في السابق، وهو أن العقل المحرك للأذرع الإرهابية واحد، وأن هذه الأذرع قادرةٌ يوماً أن تتوحد عندما يُطلب منها ذلك.
عندما دخل تنظيم القاعدة الممثل بـ«جبهة النصرة» كلاً من إدلب وجسر الشغور كان هناك اتحادٌ لرغبات داعمي الإرهاب الثلاثة (تركيا، مشيخة قطر، مملكة «آل سعود») برضى أميركي لدعم التنظيم، أما ما جرى في الأيام الماضية فهو اتحاد الفصائل الإرهابية جميعها بلحظة صفرٍ واحدة، في حلب عندما حاولوا اقتحام ميسلون من جهة المشفى وشن أكبر هجومٍ لداعش على مطار كويرس، في درعا عندما حاولوا تكرار (عاصفة الجنوب) وما ترافق ذلك من سقوط القذائف على اللاذقية ودمشق، مع العلم أن هذه التنظيمات بالحالة الإعلامية لا تتبع للممول ذاته. ألا يعني هذا الأمر أن هناك في النهاية قراراً مركزياً، يُتخذ؟ حتى ما جرى في الزبداني من التقاءٍ غير مباشر بين «داعش» و«النصرة» وما تجسد في «ريف حلب» من انسحاب «جبهة النصرة» من ريف إعزاز وتسليمها لكتائب إرهابية ستكون اليد التركية في «المناطق الآمنة» مستقبلاً، فهل حقاً أن الوضع التركي بات يسمح بإقامة هذه المناطق، ما يعني ضرب أي إمكانية لحل سياسي ـ إن وجدـ؟
لا أحد يختلف على دهاء السياسة الأميركية في المنطقة، فهي قادرة أن تدفع بحلفائها بعيداً نحو الثقة بالنفس، ثم تسحب قراراتها فجأة. كان غريباً أن تعلن تركيا اتفاقها مع الولايات المتحدة على «المناطق الآمنة»، لكن الولايات المتحدة عادت وكذَّبت التصريحات التركية.
يفهم الأميركي جيداً السعي التركي لعملية «تطهير عرقي» على غرار ما جرى في لواء إسكندرون قبل سلخه، بمعنى آخر؛ هم لا يريدون كما يُروَّج ضم مناطق سورية للأراضي التركية، لكنهم يريدون مناطق سورية يسكنها «موالون لتركيا» ليكونوا أشبه بقبر «سليمان شاه في سورية»، بل أكثر من ذلك ليكونوا أشبه بمستوطناتٍ تركيةٍ داخل الأراضي السورية، وهذا ما أثبته إصرار هؤلاء على التداول بالعملة التركية. أما الولايات المتحدة فهي تريد الحفاظ على المناطق كما هي دون العبث بديموغرافيتها، مع الزج بالعناصر التي دربتها بذريعة محاربة الإرهاب ليكونوا «مسمار جحا» لحماية هذه المناطق حتى من إمكانية عودة «النظام» إليها.
هذا التضارب في الرؤى يزيد الأمور تعقيداً على الجميع، لأننا نتحدث عن المستوى الأدنى في إدارة الاختلاف، أما إذا نظرنا للمستوى الأعلى فسنجد تضارباً أكبر بين الولايات المتحدة وأوروبا حول وجهة النظر من تركيا (تركيا كدولة)، فالاتحاد الأوروبي لن يمانع يوماً لو شاهد الاضطرابات تضرب تركيا بطولها وعرضها، بل لن يمانع في تقسيم تركيا إن تمكن لأسبابٍ كثيرةٍ أقلها ذاك الخزان البشري الهائل الذي تمثله تركيا والقوة الاقتصادية التي تهدد أوروبا. أما الولايات المتحدة فهي ترى في تركيا الموحدة عامل قوة لها، لذلك وبعيداً عن المزايدات الإعلامية للمعارضة التركية بما يخص الشأن السوري، فإن إخفاق مشاورات تشكيل الحكومة ـ حسب المعلومات المتوافرة ـ جاء بقرارٍ أميركي لأسبابٍ كثيرة أهمها:
إن الذهاب لانتخاباتٍ مبكرة سيعطي أردوغان فرصة من الوقت يسارع فيها لتنفيذ عددٍ من النقاط العالقة لترتيب ما يريد الأميركي ترتيبه في الشمال السوري.
كذلك الأمر فإن حكومة وحدة وطنية ستزيد الطين بلَّة للأميركي، وتحديداً أن المعارضة قطعت وعوداً لناخبيها بإعادة صياغة التعامل مع الملف السوري، والانتخابات المبكرة ليست مضمونة النتائج للجميع.
إذاً الأمر بمنزلة تمديد مهمة لأردوغان لا أكثر، حتى الشهرين القادمين فهل ستنجح الولايات المتحدة بتجنيب تركيا أي انفجارات، أم إن أوروبا ستفرض وجهة نظرها فيما يتعلق بالشأن التركي لدرجةٍ تسارعت فيها تصريحات المسؤولين الأوروبيين تارةً بالتحذير للرعايا الموجودين في تركيا وتارةً «الأسف» على ما سموه تدهور الوضع في تركيا؟
واقعياً نحن أمام معضلتين: إمّا أن تنتصر وجهة النظر الأوروبية وينفجر الوضع في تركيا، عندها الجميع سيتضرر بما فيهم سورية، وإما أن تنجح الولايات المتحدة باحتواء الجميع حتى إنجاز الانتخابات. في النهاية الجميع متضرر، لأن المنطقة بالكامل تسير من خرابٍ إلى خراب، وهذا التداخل المعقد في المشاكل لا يمكن لنا ببساطةٍ أن نتنبأ له بحلولٍ قريبة على مبدأ «الجميع منتصر»، فنهاية هذا الجنون يجب أن تكون بوجود «منتصر وخاسر»، فاليمن لا يزال مذبحةً مفتوحةً يمارس فيها «آل سعود» حقدهم الأعمى، حتى ما يُحكى من طروحات (لا معنى لها) عن مقايضة الملف السوري باليمني تبدو ساذجةً لأن «آل سعود» لم يتركوا لهم مُحباً، فماذا لو استولوا على اليمن بكامله؟ ماذا بإمكانهم أن يفعلوا؟ هل سيستطيعون حذف صور جثث الأطفال والنساء والشيوخ من الذاكرة؟ هل سيستطيعون حذف صور المدنيين السوريين الذين تم استهدافهم بقذائف «علوشهم»؟ ولنذهب بعيداً:
لو فرضنا «رحل الأسد» من الغد عن السلطة، فماذا عن صورة «آل سعود» في ذهن أهالي شهداء سورية من مدنيين وعسكريين؟ حتى فكرة الحلف لضرب داعش «الروسية» لا يبدو أنها ستشهد النور قريباً والدليل كلام «الجبير»، بعد كل هذا يأتي هناك من يحدثنا عن اقتراب الحلول واختيار المصطلحات مثل «الطبخة اكتملت»، «عام الحل» وما إلى هنالك من مصطلحات، حتى ترانا بعد كل هذا السرد نتساءل: «أما زال الأحمق ينظر إلى أصبعي؟».
لكي تتضح الصورة أكثر سنعود هنا لكلام الفيلسوف: قبل أن تحاول إقناعي بأن الولايات المتحدة بدأت الاستدارة لإنجاز الحل السياسي، اشرح لي ما «الحل السياسي؟»، تحديداً بعد كلام رئيس الائتلاف بالأمس فيما يخص علاج جرحى الإرهابيين في «إسرائيل». هذا هو الحل السياسي الوحيد الذي تبحث عنه الولايات المتحدة، كيف تكون سورية «مستعمرة إسرائيلية» سياسياً، حتى لو كان يحكمها «المُلا الجولاني» وما عدا ذلك كل ما يُقال: لا يعنيني… ما يعنيني أن أُصغي فقط لخبطات أقدام حماة الديار… الحل هناك فقط، سموه ما تشاؤون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن