قضايا وآراء

فقه الجغرافيا

| عبد المنعم علي عيسى

بدا ومنذ هبوبها، أن رياح «الربيع العربي» تحمل معها عودة للاستعمار العسكري المباشر من جديد، وتمثل ذلك أكثر مما تمثل في الغزو الذي قادته فرنسا على ليبيا في آذار 2011، وإن كانت كلمة «عودة» هنا ليست دقيقة، فهي لا تكون إلا بعد انقطاع، وهذا الأخير لم يحدث لأي من القوى الاستعمارية، فباريس اختارت لبوساً جديداً أطلقت عليه اسم «الفرنكفونية» التي تجمع الدول الناطقة بالفرنسية، على حين أسست لندن لمنظومة الجنيه الإسترليني، أما إيطاليا فقد اكتفت بعلاقات «ما فوق» مميزة مع ليبيا قلصت الفوارق الحاصلة ما بعد العام 1951عن تلك التي كانت سائدة قبله.
عند انطلاق غزو الناتو لليبيا، بدا أن فرنسا لا تحمل مشروعاً متكاملاً ما بعد سقوط نظام معمر القذافي، وإنما كانت تريد حدوث هذا الفعل الأخير فحسب من أجل إسقاط مشروعه الرامي إلى استبدال الفرنك الفرنسي كعملة رئيسية في إفريقيا بعملة ذهبية، وهو ما يفسر خفوت الصوت الفرنسي ما بعد سقوط نظام القذافي تشرين ثاني 2011، إلا أن ذلك الواقع لم يلبث أن تغير، فقد كشف موقع الـ«ميدل إيست» البريطاني في 9 تموز 2016 عن تسجيلات صوتية مسربة لطيارين فرنسيين فوق مدينة بنغازي، ثم لم يلبث أن جرى الكشف بعد 11 يوماً من هذا التاريخ عن غرفة عمليات عسكرية فرنسية في شرقي ليبيا.
ربما كانت فترة الاستراحة، سابقة الذكر، تعود إلى معارضة إيطاليا لأي خطوات يمكن أن تقوم بها باريس في ليبيا قبل أن يتغير ذلك الأمر جذرياً في الأشهر القليلة المقبلة.
وقعت الفصائل الليبية المتصارعة في العام 2015 اتفاقاً أطلق عليه اسم «اتفاق الصخيرات»، وعندها أعلنت باريس عن دعمها لذلك الاتفاق إلا أن ذلك الموقف الإعلامي كان يخفي موقفاً عملياتياً تقوم باريس من خلاله بدعم قوات اللواء خليفة حفتر الأكثر معارضة لاتفاق الصخيرات الذي يعتبر أن بقاءه مرتبط بإلغاء ذلك الاتفاق أو تعديله، وفي تموز العام الماضي دفعت باريس نحو توقيع «اتفاق باريس» بين الفصائل نفسها، الأمر الذي أتاح لها تقديم المزيد من الدعم لقوات حفتر، مع أن «اتفاق باريس» لا يختلف كثيراً عن «اتفاق الصخيرات» إلا في الجغرافيا التي حدث فيها، لكن ذلك كان شديد الأهمية لفرنسا كما يبدو، وفي أيار الماضي دعت هذي الأخيرة إلى مؤتمر حضرته عشرون دولة ومعهم أغلبية الفصائل المسلحة الليبية ثم أطلقت مبادرتها الثلاث عشرية التي تضمنت إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في خلال هذا العام الجاري.
ما بعد المبادرة الفرنسية انقسمت القوى المؤثرة في الداخل الليبي إلى أربعة:
1- فايز السراج رئيس الحكومة المعترف بها دولياً.
2- خليفة حفتر الذي يسيطر على شرقي ليبيا وأجزاء من المنطقتين الغربية والجنوبية.
3- عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الداعم للواء حفتر الذي لم يصدق حتى هذا اليوم على الاعتراف بحكومة السراج.
4- خالد المشاري رئيس مجلس الدولة الأعلى المناهض لحفتر وصالح.
سعت باريس إلى تعديل ميزان القوى ثم سعت إلى تفجير الصراع من جديد لأجل قطف ثمار ميزانها الراجح فكانت معركة القرب من الهلال النفطي التي اندلعت في الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، فـ«الشرق الحفتري» لا جدوى منه كما يبدو ما لم يزينه الهلال النفطي أو على الأقل كان هذا ما تراه فرنسا.
في الثامن والعشرين من أيار الماضي قال مسؤول كبير في الإليزيه: «إن باريس لا ترى مانعاً من ترشح اللواء حفتر للرئاسة في ليبيا لأنه يعمل على استقرار المنطقة الشرقية في ليبيا».
والسؤال هو: هل كانت هذه الجملة الأخيرة زلة لسان فضحت بشكل مبكر ما يدور في الخلد الفرنسي، أم إن الأمر كان مقصوداً وما يدور في هذا الأخير حان أوانه لكي يخرج إلى العلن؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن