ثقافة وفن

مانح لقب الجمال على أصحابه يغادر خلسة!!…محمد الوهيبي من سيحوّل القبح والفجاجة إلى جمال بعد ريشتك ومن لشهرزاد؟!

إسماعيل مروة : 

محمد الوهيبي الرائع رحل بصمت، آثر ألا يؤلم أهله وأصحابه، رحل على أكثر من مرحلة، رحل باعتكافه وابتعاده، رحل بقهوته التي يصنعها على طريقته ومزاجه، وغالباً ما تختلط بالألوان، رحل بسمرته الآسرة ورنين صوته وضحكته، رحل بنظرته التي لا تفارقه إن كان في الشمس والضوء أو في مكان معتم..! ضاقت الدنيا بمحمد المبدع، تثاقلت خطواته بإرث شهرزاد، وحين سألت الصديق المبدع أكسم الطلاع ابن أخته عنه، قال: تعب الخال، وصار بعيداً، واليوم وقد فصلتنا عنه آلاف الأميال، واطمأن محمد على أن دمعتنا تجرحنا نحن، ولن تصل إلى جسده النحيل المتعب، اليوم آثر محمد الوهيبي الرحيل بعد أن عجز بروحه وإبداعه عن ترقيع سقف دفع فيه عمره، وثقبته البلدية لأنه مخالف، فبقي الوهيبي يرسم تحت الانهيار والستائر حتى لم يبق للبيت من أثر إلا في ثنايا الروح..

ربع قرن من الود
محمد الوهيبي عانقني قبل ربع قرن، وأخذني إلى مرسمه في أول الحجر الأسود، درجات قليلة إلى الدور الثاني، الطبقة الثانية على الأصح، مساحات قليلة فيها لوحاته وألوانه، ومساحات أكبر فارغة، والشمس تتسلل إلى الغرفة من حفرة كبيرة في السقف، وبعض قطع الإسمنت تتدلى من السقف، وحين سألته قال ضاحكاً صادحاً: «بربك مو حلوة؟ مولوحة تشكيلية جميلة هاد السقف؟» كان قد مضى على الهدم أشهر، لكن محمد لم يكرر التصليح واكتفى بهذا الثقب الذي يغطيه بستارة في البرد، وفي مساحته لا يضع لوحة أو لوناً.. في هذا المرسم عشت أياماً طويلة أتردد إلى محمد الوهيبي، وهو يرسم تجربته في المنمنمات والإكسسوارات الشرقية، وفي وجه المرأة شهرزاد، ومن وحي ذلك المكان الآسر كتبت قصتي (موت شهرزاد) وأهديتها إلى صديق شهرزاد الأبدي محمد الوهيبي، ولم أدر أن ذلك المكان سيجمعني بالراحل الدكتور القاص محمود موعد صديق الوهيبي.. كانت مواعيد الوهيبي دوماً بعد الظهر باستثناء العطل، فهو مدرس في مدارس أبناء وبنات الشهداء، يعطي تدريس الفن أجمل ساعاته، وحين تعجبت من فنان لوحاته مطلوبة، وهو يفني وقته في التدريس، قال لي: هذه المدارس أعطتني الاستقرار قبل أن أصل إليه، وأنا أجد نفسي مع أبناء وبنات الشهداء، ولا أتنازل عن تدريسي لهم، وبيني وبينهم من الحب والارتباط ما أعجز عن تفسيره، لو تركوني لا أتركهم حتى التقاعد..
حدثني الوهيبي عن طلبته ومواهبهم، وعن الإمكانات المسخرة لديهم، وعن الإدارة وتعاملها معهم، وبينه وبين الحاجة سامية المدرس من خدمات للطلبة رحلت برحيله، أقول هذا لأن عدداً من الأصدقاء التشكيليين، وهم من دون الوهيبي كانوا يتأففون من الطلبة- إن كانوا مدرسين- بينما الوهيبي كان يرعى مواهبهم، ويحرص على التعاون معهم إلى أقصى درجة، وبقي كذلك حتى النهاية، هذا في الوقت الذي لا يتخلى عن الرسم واللوحة والتجديد والقراءة.

طريقه إلى فلسطين
اعتمد الوهيبي وفي مراحل متعددة من تجربته على تقديم الزينة والحلي ووجه المرأة في لوحته الشرقية بامتياز، وكانت الوجوه، المرأة خاصة فلسطينية الطابع من دون علم أو ثوب أو إعلان، وكانت اللوحة طريقه غير المباشر إلى فلسطين والتعبير عن حبه لها، والطائر سجيناً وطليقاً، حياً وميتاً، الطريق للتعبير عن الإنسان الفلسطيني وهمومه وقضاياه، ولم أذكر أنني رأيت له لوحة مباشرة لفلسطين، كما لا أذكر أنني رأيت له لوحة تخلو من إيحاء إلى فلسطين الوطن والحب والمرأة ورمز الشرق… وعند كل تجربة ومعرض كنت ترى الكتب منثورة على طاولات محمد وعلى الأرض، يقرأ كثيراً في الكتب، ويطلع على اللوحات التي تخص موضوعه، ومن ثم يشكل موضوعه الذي بعد عدد من اللوحات يصبح موضوع المعرض القادم، يجمع اللوحات واحدة بعد أخرى، يعرضها على المقربين، ويضعها إلى جوار بعضها ليخلص إلى معرض من روح واحدة، ويستبعد كل ما لا يمت بصلة إلى موضوعه العريض، وخاصة عندما يدخل موضوعة جديدة كما فعل في الأبواب النحاسية، وفي الأسماك التي بذل جهداً كبيراً حتى جعلها جزءاً من اللوحة إلى جوار المرأة من دون أن تكون غريبة عن اللوحة، ومن دون أن تكون نافرة أو منفرة.
وبين فترة وأخرى يأتي هاتف من الوهيبي ليطلب من أصدقائه الاطلاع على تجربته الجديدة، وكان يستمع بدقة إلى ما يقال، وأكثر من مرة شهدت على تعديلات قام بها بسبب رأي كان غائباً عنه، أو أبعده عنه إعجابه باللوحة وموضوعها، لذلك لا غرابة إن قلت إنني لم أسمع منه مرة كلمة أنا أرى، لأنه كان يرى اللوحة نتاجاً مجتمعياً يقوم على المراقبة والتأثر والتأثير.. ولذلك لم يضع لافتة لمعرض عن فلسطين ليستفيد، وحين ذكرت له تجارب تقوم على مباشرة صادقة لفنانين فلسطينيين، لم يرفضها ولم ينتقدها، وكل ما كان منه أن قال لي: هؤلاء أفضل مني، فهم عاشوا في السجون، وبعضهم تعلم الفن ورسم في السجن، فهو أكثر صدقاً وقرباً من موضوعه، وكل محاولاتي لأجعله يقدم رأياً ذهبت هباءً.

محمد والأصدقاء والشوارع
في عالم الإبداع والفن قلّ أن تجد من يجمع الأصدقاء عليه، ومحمد الوهيبي هو الوحيد الذي التقيته أنا وهناك إجماع على فنه وشخصه، فما من أحد يعترض على شخصه ورأيه، وما من أحد يعترض على الحديث عن تفوقه، اللهم إلا من باب الغيرة وعدم الحب للتجربة، وحتى من ينطلق من غيرة وعدم حب للتجربة لا ينالها كما يفعل مع الآخرين، وكل هذا يعود إلى أمرين، أولهما أن الوهيبي شخص لا يعرف الانتقاص للآخرين، لا يشارك في الانتقاص، وينسحب من الجلسة التي تسيء للآخرين، وهذا الخلق يعرفه الجميع، لذلك ربما منعهم الحياء من أن يفعلوا شيئاً تجاهه، أما في التجربة فمحمد فنان متمكن من أدواته وموضوعاته، ولا يقدم نفسه إلا على أساس التجريب، والجميع يقف أمام لوحته باحترام.
فالجميع أصدقاؤه، ويذكرني عند رحيله بنضال سيجري، وكما كانت لازمة نضال تحية إلى روحك، كانت لازمة الوهيبي: صديقي الجميل، كان يخاطب جميع أصدقائه بالجمال والجميل، لذلك سيفتقد أصدقاؤه هذا الجميل الذي لم يكن يرى سوى الجمال مع شفتين تنفرجان عن أسنانه، وإغماضة من العينين تدلان على أنه يرقب الجمال حقاً في الشكل أو في الروح… وغالباً ما كان أصدقاؤه يرونه في الشارع متسكعاً قاصداً غايته أو بيته مرسمه مشياً بمشية مميزة بحركتها وبطئها، ومن البعيد نعرف الوهيبي الذي لم يكن يقود سيارة، ولم يحب القيادة، مع أنه امتلك سيارة خاصة إلا أنه تركها لمن حوله، واكتفى بملكية الشوارع، والعرق يتصبب منه في كل شارع وزاوية، كان في طريق مشروع دمر، وكنت في طريقي لإيصال صديق لي إلى المشروع، ومن البعيد رأيته في الطريق، فأعطيت هاتفي لصديقي، استخرج الاسم وطلبته، رأيته يفتح هاتفه، بادرته ما الذي جاء بك من الحجر الأسود؟ أنزلني يومها، ودلني على بيته ومرسمه الجديد في أول المشروع، ورأيت عالماً مختلفاً، واتفقنا على حوار..
بعد أيام كنا على موعد في جريدة الوطن، التقطنا الصور، وأخذت صور لوحاته، ونشرنا حواراً جميلاً وطويلاً مع الوهيبي الفنان والإنسان، نشر الحوار، وكان الوهيبي غاية في التهذيب مع الجريدة والمحرر كعادته، وبعد أسابيع صار الوهيبي خارج التغطية، وحين سألت عنه الحبيب أكسم الطلاع أخبرني أن خاله صار في ألمانيا مقيماً، وقد كوّن أسرة جديدة. لم أفرح أن الحديث مع الوطن كان آخر حوار أجراه قبل الرحيل.. وفي شوارع دمشق تحدثت وأكسم عن محمد الخال والصديق والفنان، لم نتحدث عن سواه في كل الساعات، وكأننا ننعيه عن أرواحنا، وكنا حقاً ننعيه، فلن نراه بعد رحلته واستقراره.
وكلما نظرت إلى لوحته الأثيرة التي أهداني (البوابة) على جدار مكتبي أنتظر من محمد أن يدفعها بيده ليدخل معانقاً على عادته عناقاً طويلاً يتحول إلى هواء يدخل في حنايا قميصه الفضفاض ليعطي روحاً جديدة..

وبعد الرحيل
اليوم أول شيء رأيته خبر رحيل الوهيبي، وأول شيء فعلته الاتصال بأكسم الذي يعرف كم هو الوهيبي عندي، وبادر إلى تعزيتي بدل أن أعزيه، وقال: ذهب الذي كان يصفنا بالجمال..
محمد أيها الصديق الرائع، أيها المبدع الصادق..
أيها النبيل من سيصفنا بالجمال بعدك؟
من سيحول قبحنا إلى جمال؟
من سيكون مع شهرزاد بعدك؟
أرح رأسك يا صديقي حيث أنت
لا بكاء يؤلمك
ولا أحبة تخشى عليهم لوعة الفراق
محمد أشفقت علينا بالرحيل
ويعز علينا أن دمعنا لا يتطهر بك وبنبلك
وداعاً أيها الصديق الجميل
وموعدنا كل صباح مع ألق لوحتك وأصالة روحك
ولا تزال الشمس تصل إلى سقفك لتطهر روحك
في أرض غريبة عنك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن