قضايا وآراء

وداع مؤقت للأتاتوركية

| عبد المنعم علي عيسى

قبل أن يمر عامان على الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا صيف العام 2016 وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ظهر يوم الإثنين 25 من حزيران الماضي ليلقي خطاب الانتصار الساحق على خصومه الذين هزمهم مجتمعين في انتخابات 24 حزيران، وفيه حرص هذا الأخير على الظهور بمظهر الطاووس الذي لا بد لكل تركي أن يعجب بذيله البديع تحت طائلة الاتهام بعمى البصر، وعلى الرغم من أن الخطاب قد كان موجهاً للخارج أكثر مما هو موجه إلى الداخل، إلا أنه في الآن ذاته كان يمثل رسالة واضحة للخصوم ومفادها أن «التعقل» يقضي بأن تتخذوا من خراف بانورج الذين ساروا وراء خروفهم الأول إلى أن سقط في الهاوية قدوة ومنارة يهتدى بها.
بعيداً عن الأسباب التي أدت إلى فوز أردوغان الساحق وهو الفوز الذي لا يعكس قوة التمثيل الذي يحظى به فالأرقام تقول إنه فاز بنسبة 52 بالمئة وإذا ما أخذنا بالحسبان أولئك الذين امتنعوا عن التصويت إضافة للعديد من الممارسات التي لم تثر ضجيجاً مؤثراً فإنه يمكن القول: إن نسبة مؤيديه لا تتعدى 32 بالمئة من الكتلة الكلية للسكان، والمؤكد أن تلك النتيجة كانت قد تحققت بفعل حال التشتت الذي يعتري صفوف المعارضة، والمؤكد أيضاً أن قراءة أردوغان لتلك الحالة كانت تمثل الدافع الأكبر للعمل على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة لأنه يدرك أن خصومه هم في دركهم الأدنى على حين إنه يقف في الدرك الأعلى كما يرى.
فاز أردوغان بولاية جديدة سوف تستمر لخمس سنوات وفيها سيكون الحاكم المطلق وخصوصاً أنه سيحظى أيضاً بأغلبية برلمانية مدعومة بتحالفه مع الحركة القومية بزعامة دولت بهشلي الأمر الذي يعني أن العلاقة التي تربط بين «الأردوغانية» و«الأتوقراطية» هي حالة من التماهي قصوى حيث هذي الأخيرة تعني تمركز القرار بيد شخص واحد جاء بالتعيين لا بالانتخاب.
تقول السيرة الذاتية للرئيس التركي إنه وفي خلال الخمسة عشر عاماً التي قضاها متنقلاً في مواقع السلطة لعب الحظ دوراً كبيراً في صعوده نحو هرم السلطة، إلا أن ذلك لا ينفي امتلاكه للعديد من المواهب ولقدرة بارزة في إبعاد خصومه عن أية مناصب يمكن أن يشكلوا من خلالها خطراً عليه، حتى إذا كان انقلاب تموز قبل عامين شكل ذلك فرصة لا تعوض لإعادة رسم الخريطة السياسية على امتداد كامل البلاد وعليه فإن تركيا ما بعد الرابع والعشرين من حزيران قد أضحت تحت حكم فرد مطلق وهو يستند في حكمه على شرائح ريفية وطبقات العمال الذين يسكنون في ضواحي المدن وفي العشوائيات مع رضى واضح من البرجوازية الصغيرة، حيث الشرائح السابقة كلها تمثل مرتعاً خصباً للتدين (وليس للدين) فتركيا وحدها فيها أكثر من 100 جماعة صوفية عابرة للطوائف وللأثنيات في أن واحد، وفي التصنيف السياسي ينتمي أردوغان إلى المدرسة الشعبوية التي تقوم على إطلاق الشعارات دون الوقوف على تنفيذها، أما لماذا سادت تلك المدرسة في تركيا وفي العديد من البلدان كذلك فتلك مسألة هامة تستحق التوقف عندها في مقال خاص، وهي، أي الشعبوية، مشوبة بنزعة معاداة للديمقراطية ولكل أنواع الحكم المشترك، وهو ما تمظهر جلياً في أعقاب انقلاب تموز حيث سيعمد أردوغان إلى إجراء جراحات عميقة وواسعة ليكرس نفسه رئيساً ليس بحاجة إلى دستور ولا إلى مؤسسات أو أجهزة للحكم، وإنما هو بحاجة إلى «أتباع» أو «مساعدين» فحسب، هذا التكريس الطاغي للصلاحيات المطلقة إضافة إلى أنه ذو مردود سلبي جداً على الحراك المجتمعي فإن من شأنه أيضاً أن يفقد «الأتباع» و«المساعدين» الإحساس بهياكل المؤسسات وتراتبيتها طالما أنها تنبع وتصب في قناة واحدة، ومن المؤكد أن هذا الانحلال المؤسساتي سيفعل فعله في غرف صناعة القرار السياسي لتندفع هياكل الدولة في قوالب معلبة تظهر للرائي من الخارج على أنها شديدة التماسك وإن كان ذلك المظهر خادعاً ولن يطول الوقت حتى يتكشف القشر ليظهر اللب ولتطفو على السطح الهشاشة كبديل للتماسك والوهن كبديل للقوة.
الآن ما بعد الحالة التي وصل إليها أردوغان بات من شبه المستحيل إزاحته بشكل دستوري، وإن كانت تلك الحالة ستؤدي بمرور الوقت إلى تقوية المؤسسة العسكرية وشدة تلاحمها وهي المعروفة بأنها خط الدفاع الأخير عن العلمانية، والراجح أن تستمر حالة الاستقطاب وفق هذا المشهد السابق إلى أن يؤدي التراكم الكمي إلى تغير نوعي فمعدن النحاس الذي نعرفه ونعرف خصائصه يصبح هو غيره تماماً عندما يصل التراكم الحراري إلى الدرجة 1083ْم، وحينها سيكون أردوغان أمام مصير شبيه بالمصير الذي لقيه رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس العام 1961.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن