ثقافة وفن

معلولا المدينة الساحرة.. عالم من الهيبة والجمال

| المهندس علي المبيض

نستكمل ما كنا قد بدأنا به حديثنا بالمقال السابق فيما يخص الممالك الآرامية التي قامت في منطقتنا، ونبين أنه في نهاية النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد خرج الآراميون من شمال شبه الجزيرة العربية متجهين نحو الشمال إلى سورية وانتقلوا من حياة الترحال والتنقل إلى حياة الاستقرار في عدة مناطق مشكلين ممالك متجانسة في اللغة والحضارة والعقيدة والثقافة والفنون…. وأخذت هذه القبائل تدريجياً تستقر وتمارس أعمال الزراعة، ويمكن اعتبار القرن الحادي عشر قبل الميلاد ذروة انتشار الآراميين.
ومن أهم الممالك الآرامية التي قامت في تلك الفترة:

• مملكة بيت عديني وعاصمتها تل برسيب تل أحمر حالياً جنوب مدينة جرابلس، وصلت حدودها إلى بلدتي الباب وإخترين في الغرب.
• مملكة بيت بخياني وعاصمتها غوزارنا تل حلف في حوض الخابور قرب رأس العين.
• مملكة شمأل عند جبال أمانوس.
• مملكة بيت أغوشي وعاصمتها أرباد تل رفعت حالياً شمال حلب بالقرب من بلدة إعزاز.
• مملكة آرام صوبا في سهل البقاع (عنجر).
• مملكة آرام بيت رحوب عند مجرى الليطاني.
• مملكة آرام معكا في الجولان.
• مملكة جشور بين نهر اليرموك ودمشق.
• مملكة حماة.
• مملكة آرام النهرين بين الفرات والخابور.
لعبت الممالك الآرامية دوراً مهماً في تاريخ المنطقة وأثرت بشكل كبير في الحضارات القائمة التي قامت لاحقاً حتى حدود وادي النيل، ولعل موقع عين دارة التي تقع غرب حلب هي من أهم المواقع الأثرية الآرامية، ولقد سكن هذا الموقع بشكل متواصل حتى عصر الحمدانيين.
واستفادت الممالك الآرامية من موقعها الجغرافي المهم والمسيطر على طريق القوافل التجارية ونشطت حركة تبادل البضائع وتجلت هذه الفائدة بزيادة مواردها المالية وغدت قوةً اقتصاديةً لا يستهان بها ونجحت في إيصال قادتها إلى عرش مملكة بابل، وظهرت كقوة عسكرية في المنطقة ما ساعدها على الحفاظ على شخصيتها وثقافتها التي أخذت تنتشر في المنطقة.
مملكة آرام دمشق من أشهر الممالك الآرامية وأقواها، وكانت تعتبر سيدة الممالك الآرامية وعقلها المفكر ومحورها الرئيس ورمز صمودها ووجودها.
لعبت مملكة دمشق دوراً مهماً جداً في عصر ملكها ابن حدد (879- 845) قبل الميلاد وامتد نفوذها على مساحات واسعة وفرضت سيطرتها على المناطق المجاورة لها وعقدت معها تحالفات ضد أطماع الآشوريين.
وجد نصب ملقارت على بعد نحو 6 كم شمال حلب، واكتشافه في تلك المنطقة قرب حلب يشير إلى توسع سلطة ملك آرام الدمشقي والتي امتدت إلى الشمال، وكان يطلق على ملكها لقب ملك آرام وهذا ما يؤكد ويفسر زعامتها لتلك الممالك.
في عهد آخر ملوك مملكة دمشق «رصين» حاصرها الملك الأشوري تغلات فلاسر الثالث عام 732 قبل الميلاد ودخلها وقتل ملكها رصين ونفى كثيراً من أهلها وضمها للمقاطعات الآشورية.
وبذلك خسرت الممالك الآرامية دعامة كبرى من دعائم ممالكهم وانتهت مملكة دمشق كمملكة آرامية لكنها لم تنته كحضارة ووجود وسيادة، بل استمر نشاطها الاقتصادي ونفوذها الثقافي وأصبحت لغتها هي لغة التخاطب بل اللغة الرسمية، وكان الآشوريون يعتمدون الكتّاب الآراميين في كتابة وثائقهم، وقد عثر على منحوتة آشورية من عهد تغلات فلاسر الثالث تمثل كاتباً آرامياً يوثق ويسجل الغنائم بقلمه على ورق البردي في حين أن زميله الكاتب الآشوري كان يكتب على رقيم طيني النص بالكتابة المسمارية، وقد اقتضت العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين مختلف الدويلات الآرامية التكلم بلغة واحدة لتكون لغة الممالك الآرامية كلها.
ومن المهم أن نذكر أنه وإن زالت الممالك الآرامية إلا أن منجزات الآراميين كانت زاخرة وتاريخهم حافل وآثارهم التي تركوها مهمة جداً، ولعل أعظم ما خلفوه اللغة الآرامية التي تكلم بها السيد المسيح وهي إحدى اللغات السامية التي أصبحت اللغة الرسمية في الإمبراطورية الفارسية.
وقد فرضت اللغة الآرامية ذاتها على الدولة الآشورية وكانت الهند وأفغانستان وبلدان أخرى قد فتحت أبوابها أمام اللغة الآرامية، وفي فلسطين أيضاً عثرت على وثائق مكتوبة باللغة الآرامية.
عرفت هذه المنطقة وحدة ثقافية لغوية واقتصادية قادها وأدارها الآراميون بشكل لم يشهد لها مثيل من قبل، وأنه على الرغم من زوال الممالك الآرامية إلا أن اللغة الآرامية بقيت قائمة وظلت منتشرة على الرغم من التأثيرات الجديدة وكانت من أهم عوامل وحدة هذه المنطقة.
وعند انتشار المسيحية أخذت اللغة الآرامية تترسخ في النصوص الأدبية وكتب فيها أدب غزير، وساعد النشاط التجاري البري الواسع الذي مارسه الآراميون في مناطق كثيرة من العالم القديم في انتشار اللغة الآرامية، وما تزال هذه اللغة في جوهرها تلك اللغة التي تكلم بها الآراميون قبل 3000 عام، وهو يعد أحد أهم مظاهر عظمة هذه الحضارة التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة وهو يوضح المستوى العلمي والمتقدم للحضارة الآرامية والذي استمر ولم يندثر بزوال الممالك الآرامية، بدليل أن اللغة الآرامية مازالت مستخدمة في بعض مناطق سورية والتي يتحدث بها جزء مهم من السوريين لغاية اليوم، ومازالت الدولة تهتم بتعليمها للأجيال القادمة وذلك بتشجيع فتح المعاهد والمراكز التعليمية التي تضمن استمرار اللغة الآرامية وعدم انقراضها.
برع أبناء الممالك الآرامية في الصناعات ونشط القطاع الصناعي في شتى أنحاء الممالك مثل صناعة الملابس والأقمشة المطرزة وتطعيم الخشب بالعاج والنحاس والفضة والذهب، وفي صناعة الحلي من الفضة والذهب والصناعات الجلدية.
كما عثر في شمال سورية على نماذج من العاج مزخرفة بشكل فني بديع وهي معروضة لغاية اليوم في متحف اللوفر.
كما نشط الآراميون في التجارة، والتجارة في سورية عريقة وقديمة وكانت تنطلق من دمشق قوافل تجارية عديدة إلى جميع المناطق وإلى بلاد الرافدين وشمال سورية وإلى اليمن جنوباً، لذلك فقد عمل الملوك الآراميون على فتح طرق جديدة للتجارة مع فلسطين والجزيرة العربية.
وكانت القوافل التجارية تحمل بضائع متنوعة تشمل الأقمشة المطرزة والكتان والحرير والحلي الذهبية والفضية وجلبوا الأخشاب الخاصة من إفريقيا، والنحاس من قبرص واللؤلؤ والعطور والتمور من الخليج العربي واستوردوا التوابل والبخور من الهند.
وقد نشر التجار الآراميون ثقافة راقية عالية المستوى أثناء سفرهم في الشرق والغرب انتقلت معهم حيث حلوا في مناطقهم، حيث كان يرافق التجار المسافرون بعض الأسر والعائلات والتي انتقلت سكناها من سورية إلى حيث تحط القوافل التجارية حاملةً معها حضارتها وثقافتها ومعتقداتها وعاداتها ولغتها… وهذا ما أدى إلى تفاعل وانسجام بين بلاد المشرق العربي القديم وانتشار الثقافة والعلوم والفنون إلى مناطق عديدة قريبة وبعيدة.
معلولا

وطالما تحدثنا عن اللغة الآرامية فلابد لنا أن نتحدث ولو بشكل موجز عن معلولا هذه المدينة الفريدة التي ليس لها مثيل في العالم، بيوتها المتعانقة التي احتضنت أناساً يتطلعون إلى الصفاء والمحبة والسكينة، تكاد أحجار بيوتها وأزقتها الضيقة تنطق بكلمات الود والمحبة بلغة مقدسة نطق بها السيد المسيح قديماً، وهي بلدة تاريخية وسياحية غافية على سفوح جبال القلمون تقع شمال شرق دمشق على بعد نحو 50 كم، اسمها يعني «المدخل» حسب اللغة الآرامية التي ما زال سكان معلولا يتحدثون بها.
تضم معلولا العديد من المواقع الفريدة التي تعتبر من المقاصد السياحية المهمة نظراً لتعدد مزاياها من الناحية التاريخية والدينية والمعمارية واللغوية… وتستقطب العديد من الزوار من مختلف أنحاء العالم، وهي موضع اهتمام المستشرقين والسياح والحجاج، وتنفرد البلدة القديمة بتوضع بيوتها على السفوح بشكل متراكب ومتدرج وتتميز بارتفاع بعضها فوق بعض، حيث لا تعلو الطبقة الواحدة منها أكثر من ارتفاع بيت واحد لتتحول بذلك سطوح المنازل إلى معابر وممرات لما فوقها من بيوت لتكون ذات طابع متميز ومنفتح على الجوار مكونةً علاقةً حميميةً بين أبناء القرية، أما طرقها فهي عبارة عن ممرات ضيقة ومتعرجة وبعض هذه الطرقات تمر تحت البيوت المبنية بمواد تقليدية من جذوع الأشجار والأغصان المغطاة بالتربة المجبولة بالقش اليابس وجدرانها مبنية من الأحجار الكلسية المحلية، وفي معلولا آثار قديمة منها مغاور محفورة في الصخر كان يسكنها الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ وتحكي قصة تاريخ يمتد لآلاف السنين، ويعتقد الباحثون أن هذه المغاور في معلولا ويبرود ومناطق القلمون عموماً تدل على أن هذه المنطقة من أقدم المناطق المسكونة.
تحتوي معلولا على معالم تاريخية متفردة أهمها الأديرة والكنائس والممرات الصخرية وتضم آثاراً مسيحيةً قديمةً ومهمة في تاريخ المسيحية منها كنيسة بيزنطية قديمة وأضرحة بيزنطية منحوتة في الصخر في قلب الجبل.
دير القديسة تقلا يقع في الجهة الشرقية من معلولا وفي مكان بارز من القرية حيث يطل عليها من جوف الكهف الصخري، نسج حوله الكثير من القصص التي تضفي قدسيةً ورهبةً على الموقع، والدير جزء مهم من الذاكرة الثقافية والمكانية لأبناء المنطقة ويؤمه العديد من الزوار والسياح المسيحيون والمسلمون من كل صوب ومن كل أنحاء العالم للتبرك وللزيارة.
يضم دير مار تقلا رفات القديسة تقلا ابنة أحد الأمراء وتلميذة بولس الرسول، التي اعتنقت المسيحية وهربت من جند أبيها من الأناضول متجهة إلى هذه المنطقة لتتدخل العناية الإلهية وتنقذها لتهرب من خلال الفج، الذي سمي باسمها وهو ممر ضيق بين جدارين صخريين شاهقي الارتفاع، وبقي دير مار تقلا حتى الآن رمزاً للقداسة وحياة القديسين.
وإذا أمعن الزائر النظر من سطح الدير إلى الجبال المحيطة به شاهد غرف الانفراد المحفورة في الصخر وعلى مستويات مختلفة والتي كانت تستخدم خلوات للرهبان الذين ينصرفون إلى الصلاة والتأمل والتقشف والزهد ما يدل على أن معلولا كانت مدينة رهبانية مقدسة ترتفع منها الصلوات والتضرعات ليلاً نهاراً إلى الله.
دير مار سركيس يقع الدير على المرتفع المطل على قرية معلولا وبساتينها، تعد كنيسته واحدة من أقدم الكنائس في العالم والتي شيدت على أنقاض معبد وثني على الطراز البيزنطي، وتعود فترة بنائها إلى القرن الرابع الميلادي.
دير البنات.
كنيسة التوبة.
كنيسة القديس لاوندايوس.
كنيسة مار الياس.
كنيسة القديسة بربارة.
كنيسة القديس جاورجيوس.
وهناك العديد من المزارات القديمة نذكر منها مار توما، مار سمعان، مزار مار قزمة ودميانوس، مزار مار سابا، مار شربل…
المقابر الصخرية.
حمام الملكة.
ومن أهم الأعياد في معلولا عيد الصليب الذي يصادف الرابع عشر من أيلول، حيث يخرج المصلون من الأديرة والكنائس يجوبون الطرقات في معلولا رجالاً ونساءً وأطفالاً… حاملين الشموع في مهرجان احتفالي بهيج.
كذلك يتم الاحتفال بعيد القديسة مار تقلا الذي يصادف الثاني والعشرين من أيلول، وعيد مار سركيس في السابع من تشرين الأول.
معلولا هذه المدينة الساحرة
عالم من الهيبة والجمال..
تعانق قباب كنائسها ومآذن مساجدها قمم جبالها الشامخة..
بينما تمنحك لغة أبنائها الآرامية صلةً مقدسةً بأعماق التاريخ.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض الطاهرة..
نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال.. جيلاً بعد جيل.
سورية الراسخة..
سورية الشامخة..
ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت طوال عمرها المديد كل الأزمات التي مرت بها.
وللحديث بقية…

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن