ثقافة وفن

تدمر.. صفحات من التاريخ في الوجدان … عاصمة التجارة العالمية والثقافية واستقطبت كل الحضارات وحافظت على موروثها الأصيل

| هيثم يحيى محمد

تقع تدمر في وسط البادية السورية. وهي أقدم وجود بشري يعود إلى العصر الحجري القديم حيث وجدت جمجمة عمرها 450000 سنة في منطقة الكوم شمال شرقي تدمر، كما وجدت بقايا مستحاثات حيوانية وأدوات صوانية وفخارية في موقع جرف العجلة وكهف الدوارة شمالي تدمر تعود للعصر الحجري الحديث.
ويمكن القول: إن نشوء تدمر مدين لنبع أفقا فهو هبة السماء، وتدمر تعني بالآرامية(تدمرتو) الأعجوبة، أو الجميلة(تدمرتا) وباللاتينية (بالميرا بلاد التمور).
وأول ذكر وجد في منطقة كباد وكيا (كولتبه) يعود للقرن (20) قبل الميلاد. والذكر الثاني في أرشيف ماري على الفرات يعود إلى القرن (18) قبل الميلاد. والذكر الثالث في مسكنة (إيمار) يعود إلى القرن(14) قبل الميلاد. والذكر الرابع في حوليات الملك الآشوري تغلات فلاصر في القرن (11) قبل الميلاد.

تدمر من قرية تجارية إلى قوة عظيمة وعالمية
ويقول الباحث في التاريخ والمتخصص في آثار تدمر جميل القيم الذي التقيناه في طرطوس على هامش محاضرة ألقاها في مركز ثقافي طرطوس منذ بضعة أيام:
بعد سقوط البتراء وضمها إلى الإمبراطورية الرومانية عام 106 م. في عهد الإمبراطور تراجان وتحول طريق التجارة العالمية نحو تدمر فقد أصبحت عاصمة التجارة العالمية والثقافية، فهي مدينة كونية استقطبت كل الثقافات وتفاعلت معها وحافظت على موروثها الأصيل أثرت بشكل كبير وتأثرت، وشكلت نقطة توازن وسلم في العالم القديم بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. فتدمر لها ميناء على الفرات دورا أوروبس (الصالحية) مدينة التعايش الديني حيث وجد كنيس وكنيسة والعديد من المعابد اليونانية والرومانية والتدمرية (بل وجاد).
والميناء الآخر(ميسان) على الخليج العربي مملكة خرقدونيا، وميناء فقط على نهر النيل، وميناء حلبيا زلبيا على الفرات، إضافة إلى العديد من المكاتب التجارية في بابل ودلمون وفي الكويت واليمن حيث وجدت كتابات العقلة وغيرها.
يقول الباحث العلامة محمد علي مادون في كتابه (تفاعلات حضارية على طريق الحرير). التدمريون كانوا 1- إما تجاراً 2- أو للسلع والبضائع كانوا ناقلين. 3- أو حماة وحراساً للطرق وتأمين القوافل.
وهذا ما تثبته النقوش والكتابات، مثل الكتابة على الرواق الجنوبي للأغورا لمركب حنين بن حدودان
وقائد المركب ماركوس أولبيوس يعود إلى 158 ميلادي.
زار تدمر الإمبراطور هادريان129 ميلادي وكرمته قبيلة بني معزين في معبد بعل شمآين، وأعطى تدمر لقب تدمر الهدريانية حيث أعفى تدمر من الضرائب وأصبح لها حرية جباية أموالها.
وفي عام 137 ميلادي صدر القانون المالي الجمركي الذي نظم الحياة الاقتصادية وأصبحت الأغورا في تدمر تحتوي على مستودع البضائع الشرقية والغربية (الحرير من الصين والتوابل من الهند والصوف من كشمير واللازورد من أفغانستان واللؤلؤ من دلمون والبخور من شبوة وظفار في الجزيرة العربية والرخام من الأناضول…).
قمة الازدهار خلال عهد الأسرة السفيرية بين 193 حتى 235 ميلادي حيث وصلت إلى قمة الازدهار الاقتصادي والثقافي، كما أعطيت تدمر لقب المعمرة الرومانية في عهد الإمبراطور كركلا عام 212.
في عام 228 كانت تنتظر مفاجأة قطع الطريق من الفرس وتحول طريق الشرق والغرب إلى مسار الجنوب والشمال.
وصلت أسرة عربية يقودها أذينة عام 260 حيث استطاع تحرير الإمبراطور فاليريان من الفرس وانتصر على سابور وطرده إلى ماوراء الفرات، وأعطته روما لقب ملك الملوك ومصلح الشرق. قتل أذينة في احتفال عام 268 من ابن أخيه معن.
تولى الحكم زنوبيا الوصية على ابنها وهب اللات، استطاعت طرد الرومان إلى الأناضول حتى بيثينيا ومن مصر، وقامت بصك نقد وطني عليه صورة زنوبيا.
لكن أورليان استرد هيبة روما 274 عندما حاصر تدمر ودمرها، فقد وقعت زنوبيا في الأسر في طريقها على الفرات للاستعانة بالفرس، ماتت أسيرة في روما.
تحولت تدمر إلى محطة عسكرية ستراتا ديقلوسيان في عهد ديقلوسيان (284- 305).
ويضيف القيّم في الفترة البيزنطية تحولت المعابد إلى كنائس، وأصاب تدمر زلزال كبير خرب أقساماً واسعة من مبانيها وأسوارها في عام 434ميلادي. وفي عهد جوستنيان 525-565 ميلادي أمر قائده (أرمينوس) بالذهاب إلى تدمر لترميم ما تهدم من أبنيتها وأسوارها، ويذكر أن القناة الفخارية في شارع الأعمدة تعود إلى عهد جوستنيان، على حين الحجرية تعود إلى القرن الأول الميلادي.
وفي الفترة الأموية أصبحت محطة للأمويين زمن هشام بن عبد الملك بين قصر الحير الشرقي والغربي، وأصبحت مزدهرة بدليل وجود سوق أموي غربي التترابيل، لكن في نهاية الدولة الأموية عام 749 كانت تنتظر تدمر تدمير أسوارها من الخليفة مروان بن محمد.
وفي العصر العباسي الأول أهملت تدمر، وفي القرن (10) ميلادي أصابها زلزال كبير جعل الخراب فيها من جديد.
في عهد أتابكة دمشق تحولت إلى معبد بل ثم إلى حصن زمن يوسف بن فيروز وفي الفترة الأيوبية بنيت قلعة تدمر من أسد الدين شيركوه.
وفي فترة المماليك أهملت ولم تكن محطة من محطات الإنذار المبكر ضد المغول تمتد من الرحبة على الفرات حتى دمشق ومن ثم نحو القاهرة.
وفي الفترة العثمانية أهملت مع طي النسيان حتى قدوم أول بعثة استكشافية 1751 من داو كنز وروبرت وود، لكن أهم حدث تاريخي فك شفرة الكتابة التدمرية كان من الأب الفرنسي بار تملي والإنكليزي سويتون.
وفي عام 1882 اكتشف الأمير الروسي أبماليك لازريف التعرفة المالية الجمركية وتم نقله إلى متحف الأرميتاج 1901 م بموافقة السلطات العثمانية، ويبلغ طوله 480×175 متراً.
ويحتوي على أربعة حقول:
1- الجهة المشرعة: مجلس الشيوخ.
2-التعرفة الجمركية: وتحتوي على السلع والبضائع ومكوسها (حمل حمار- حمل جمل-عربة).
3- غرامة البيانات الجمركية الكاذبة.
4- فض النزاعات.
-في فترة الانتداب الفرنسي أخلي معبد بل من السكان وتم نقلهم إلى مدينة جديدة كما تم اكتشاف الأغورا وترميم معبد بل والمدافن وغيرها من سيريغ وآمي وجان كانتينيو وجان ستاركي.
ويقول القيّم عن أهم الأوابد الأثرية:

معبد بل
بل رب رافدي أو بعل كنعاني أومردوخ لدى البابليين.
بني سنة 32 ميلادي على أنقاض معبد يعود للفترة الهلنستية على أنقاض معبد ثالث يعود للألف الثاني.
أ- التوصيف المعماري:
يحقق خصائص المعبد السوري القديم:
1- الباحة رحيبة 205× 210
2- النوافذ مستطيلة
3- الجبهات المثلثية
4-الحرم في الوسط
5- المحاريب تخضع لقاعدة التوجه بعكس اليونان والرومان فيضعون آلهتهم في الوسط.
ب: يتم الدخول إلى صحن المعبد بوساطة درج عريض يؤدي إلى بوابة فخمة أمامها رواق ولها مداخل ثلاثة كانت تغلق بأبواب من البرونز المذهب، ولصحن المعبد مدخل آخر يمر منحدراً تحت أرض الرواق الغربي لتدخل منه الحيوانات المعدة للأضاحي.
وحول الصحن من جهاته الثلاث أروقة مزدوجة، أما الجهة الغربية فرواقها أعلى من الأروقة الأخرى ولكنه غير مزدوج.

التأثيرات الرومانية
نلاحظ التأثيرات الرومانية من خلال نمط تيجان الأعمدة الكورنثية في أروقة المعبد، وكذلك الأمر في نمط التيجان الأيونية في الجدار الجنوبي من الحرم.
3- النحت الديني:
يتضح جلياً في أروقة الهيكل المركزي حيث تحمل سقوف الأروقة جسوراً كانت تحتوي على عدة لوحات.
في اللوحة الأولى: يظهر إله القمر(عجليبول) مرتدياً السروال والقميص ويقابله إله الفصول والمواسم بدليل وجود مذبح الفواكه (الصنوبر والتفاح والرمان).
في اللوحة الثانية الخلفية نجد عدة آلهة ترتدي زي المحاربين ونلاحظ الحصان الذي يرمز للخير والتنين الذي يرمز للشر، أو الشيطان، مشهد صراع الخير والشر.
في اللوحة الثالثة نجد مشهد الطواف الشهير الذي يبدو فيه تمثال الإله بل على جمل في قبة حمراء وفيه نساء محجبات، ويقاد هذا الطواف بكاهن من الدرجة الأولى ويميز من خلال القبعة الأسطوانية التي عُقد عليها ظفيرة من الغار وكان حليق الذقن متطهراً ونشاهد الثور الذي يضحى به.
اللوحة الرابعة: حيث يلاحظ الكهنة يحرقون البخور لتطهير المكان المقدس وطرد الأرواح الشريرة وهذا تقليد قديم ظهر في كل من الأوساط المسيحية والإسلامية لاحقاً.
نجد في الهيكل المركزي عدة نقوش فالبيضة ترمز للحياة والكرمة للخصب والزيتون للسلام.
4- الطقوس الدينية
أ- الطهارة: حيث يدخل الشعب من البوابة الرئيسية لممارسة طقس الطهارة من البركة المقدسة.
بعد ذلك:
ب- يتم الطواف عدة أشواط حول الحرم، وهذا طقس شرقي قديم.
ج- الأضحية: حيث يضحى بالإبل والأغنام عند دخولها من الممر المخصص للأضاحي وتقديمها للمذبح.
د- الوليمة الدينية في غرفة المائدة: حيث تتم دعوة الأشخاص ذوي المراتب الرفيعة ويرأس الوليمة رئيس وليمة دينية وهو هنا الكاهن الأكبر لمعبد بل ويعرف باليونانية باسم (رب مرزحا)، والدخول لهذه الوليمة ببطاقات صغيرة من الفخار أو البرونز عليها صورة الرب أو رمزه واسم مقدم الوليمة ورموز شتى.
– التأثيرات البابلية
يتم الدخول للحرم فقط من كهنة مغتسلين ومتطهرين ويوجد على سطح الحرم أربعة أبراج، كانت مهمة الكهنة مراقبة حركة النجوم والسماء، ويتم الصعود عبر درجين دائريين، كما نلاحظ الشراريف المسننة(ميرلونات) وفي ذلك أسلوب عمراني شرقي قديم نجده في مباني الأنباط.
في المحراب الشمالي:
نجد النسر يرمز للإله بعل شمآين والنسر يرمز للقوة والسيطرة والحرية ونلاحظ أن النسر يقترب من السماء فكرة الاقتراب من السماء وأن إلهاً كبيراً يسيّر هذا الكون إضافة إلى تمثال الإله يرحبول (إله الشمس) والإله عجليبول (إله القمر).
فمعتقداتنا فلكية تأثرت بالكواكب والنجوم ونجد في بابل الإله زين وشماش = الشمس والقمر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن