قضايا وآراء

علِّمينا.. إلى «سيدة الياسمين» مع فائق الأمنيات

| فرنسا – فراس عزيز ديب

إنسانةٌ تشبههَم بكلِّ الأمنيات المنحوتة على لوحِ الخلاص المقدس لوطنٍ تعمد بدماءِ أبنائه، إنسانة تعنيهم بإنسانيتها قبل كل الألقاب والصفات التي تحملها، تعنيهم كما يعنيهم هدوء الفرات في ليلٍ تموزيٍّ مُقمر، تعنيهم كما يعنيهم الاستظلال بفيء سنديانةٍ جبلية، أو زيتونةٍ عطاء لا شرقيةٌ هي ولا غربية، تعنيهم كما تعنيهم حجارة القِلاع، أو تلك البيوت القديمة التي بناها السوريون القدماء بزخمِ التأسيسِ لحضارةِ الخير، حجارةٌ شابَ التاريخُ على عتبَاتها وهي لم تَشب، وتيمَّم المستقبل بغبار حتِّها ليكتبَ رسالته للإنسانية جمعاء، نحن هنا، وطن السلام وشعب السلام.
هناكَ على ناصيةِ الصبر تناثرَ قنوتُ الإيمان بين ثنايا الأرواح الحزينة، خفقت القلوب، عنَت العيون وارتفعت الأكفّ بين تكبيرٍ وتصليبٍ بالدعاء، فنحن قومٌ لا نجزع من اختبار السماء، نحن قومٌ نحيكُ من رشحِ الظلام مشكاةَ نورٍ تطارده حتى تطردهُ، تقاتلهُ حتى تقتلهُ، نحنُ قوم اعتدنا أن نخبئ ألمنا في حاجات بعضنا لبعض، تماماً كما أخفى سيدنا يوسف صولجان عزيز مصر في متاع أخيهِ، لا لكي يزيدَ ألمه، لكن ليزداد صبره، وثقته بأن القادمَ أجمل كيف لا ونحن شعبٌ علَّمنا الصبر معنى المكوث ببطن الحوت.
في الكتابةِ، عليك أن تتجنبَ وضع عنوانٍ ما كنقطةِ انطلاقٍ لما ستكتُب، فالعناوين لا تصنع وحدها الأفكار، بل الأدقّ أن تبحث عن الأفكار، دعها تتزاحم بين ثنايا يراعك ليأتِي العنوان في النهاية أشبهَ بذاكَ التاج الذي يزين تلك المقطوعة فيختصرها بالحد الأدنى، لكن هي المرة الأولى التي أبتدئ فيها بوضع عنوانٍ لما سأكتب، فتدحرجت الأفكار كما لو أنها انسياب شلالٍ من قمةٍ يكسوها الثلج، كيف لا والعنوان بحجم امرأة لقّبها محبوها ولم تلقِّب نفسها بـ «سيدة الياسمين».
قد يتساءل المتذاكون، لماذا الحديث عن امرأة تتعالج من مرضٍ يصيب النساء في الوقت الذي قد نجد فيهِ مئات السوريات يعانينَ من المرض نفسه، وماذا عن باقي الآلام، قد يصل بهم الحد ليتهمونا بالتملق وبيع الأفكار، ربما قد نتفهم منهم كل هذا، فهؤلاء أساساً عندما نكتب للدفاع عن وطننا لم يوفروا توجيهَ سهام حقدهم لنا، فكيف والقضية اليوم مرتبطة بما أعلنته رئاسة الجمهورية العربية السورية عن بدء السيدة أسماء الأسد رحلةَ علاج من سرطان الثدي؟ لكن باختصار لكل هؤلاء نقول:
القضية ليست «سيدة أولى» ولا «زوجة رئيس»، وإلا كان الأولى بكم أن توجهوا هذه الأسئلة للإعلام العربي والغربي الذي يدعم حربكم الدموية على سورية وطريقة تعاطيه مع الخبر لدرجةٍ بات فيها عتاة الإلحاد من كتّاب وصحفيين فرنسيين وألمان مثلاً يؤمنون بـ «عدالة السماء»!
القضية هنا الحديث عن أيقونةٍ تجاوزت بتواضعها كل خطوط الإنسانية، إنسانة أحبت عمل الخير حتى بات السوريون يلقبونها بـ «وجه الخير»، الحديث عن مواطنةٍ سورية آمنت ببلدها وأدركت أن الحرب هي حربنا جميعاً، فلم تضع نفسها في برجٍ عاجي، ولم تنكفئ خوفاً على نفسها أو عائلتها، القضية هنا عن امرأة أرادت أن تستثمر حتى بمرضها ومعاناتها لما يخدم الحملة التوعوية لمن يعنيهن الأمر أو من هن عرضة للإصابة بهذا المرض، القضية هي قضية إنسانة اختارت أن تتعالج في مكانٍ يُعالج فيه شجعان هذا العصر لأنها الأعلم بقداسة جراحهم، القضية باختصار أنها إنسانة حاكت السوريين بكل حركاتها وسكناتها بما يحبون وبما يفتقدونه من سلوكٍ حتى من صغار المسؤولين وعائلاتهم، وبما يحلمون بأن يكون عليه عتاة التنظير بالوطنية والإيمان وهم يخشون حتى الخروج من دون مواكب جرارة، القضية باختصار أننا حتى في مرضها بحاجةٍ أن نتعلم منها:
علمينا يا سيدتي كيف نواجهُ ذاكَ الخبث الذي في داخلنا قبل أن يمتحننا القدر بمواجهةِ مرضٍ خبيث، علمينا كيف ننزِل إلى الساحات في أوجِ التهديدات يتقدمنا أبناؤنا لا أبناء الفقراءِ والمحرومين، علمينا يا سيدتي كيف نقتل بداخلنا تلك الأنا المريضة التي تحول الأوطان لفنادق، والتملق سلماً للصعود، والمسؤولية باباً للانغلاق والفوقية.
علمينا يا سيدتي أننا لا يمكن أن نحب وطننا لدرجةِ القتل، وأن العطاء يجب أن نحفر لأخبارهِ حفرةً عميقة تحت سنديانةٍ معمرة حتى لا يكون باباً للمباهاة والرياء، علمينا أن الإيمان بالشباب والوطن أساسه العمل وليس الخطب الرنانة والتصفيق الحار على وقعِ الهتافات، علمينا يا سيدتي، ليس فقط لأنكِ تمتلكين الكثير لكن لأننا كنا ولا نزال نحتاج الكثير.
في الختام: أعلم تماماً أن كل الكلام الذي قد يُكتب سيخجل من ابتسامتك وأنتِ تتلقين العلاج، ابتسامةٌ اختصرت الكثير بل حرمتنا الكثير لأنها ببساطة أضاعت الحروف.
يوماً ما قرر شاب السفر خارج بلده، قبل أن يرحل ذهبَ إلى رجلٍ حكيم يثق به طالباً منه النصيحة ابتسم العجوز وقال له باختصار:
إن أردت أن ترتاح فعليكَ أن تتعاطَى مع كل ما تمر بهِ على أنه اختبار، قد تأتينا الاختبارات بأشكالٍ مختلفة، قد نُختبر بفقد عزيزٍ أو مرض، قد نُختبر حتى بمتاع الحياة وسقط اللسان لكن عليك أن تعلم أن الاختبار لا يأتِي دائماً وعندما يأتِي عليك أن تثبت قوة الإيمان لديك بتجاوزه، لا بالتمرد عليه والتأفف منه تحديداً إن المؤمن مُختَبَر.
منذ أيام وأنا أستعيد هذه الحكاية في ذهني وأنا أقول: عندما يكون الحكيم بصورة «سيدة الياسمين»، ونقطة على السطر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن