ثقافة وفن

أيام مواكب الحج الدمشقية والمحمل في ظل منع السوريين منه اليوم!

| منير كيال

روى لنا المسنون من أسلافنا، ومن عاصرهم ممن احترفوا حرفة تخدم قافلة الحج الشامي، في أوائل العقد الرابع من القرن المنصرم (العشرين) ما تبقى بذاكرتهم من المشاهد التي عايشوها خلال ممارستهم ومعايشتهم لها، وما رافق ذلك من احتفالات ومواكب اختصت بها مدينة دمشق قبل انطلاق قافلة الحج، وكان من هذه المواكب، احتفال أو موكب يوم الزيت وموكب يوم الشمع وماء الورد، وأيضاً موكب خروج السنجق.

وبالتالي دورة وداع دمشق للمحمل والسنجق الذي يلي دورة السنجق والمحمل حول دمشق فقد كان اليوم الذي تحتفل فيه دمشق بالزيت الذي سيرسل إلى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة هو اليوم الثاني من أيام عيد الفطر (شهر شوال) وكان هذا الزيت مرتباً على كفر سوسة بريف دمشق، فيجلب الزيت بضروف جلدية محكمة فتوضع تلك الضروف بصناديق من الخشب محمولة على الجمال المزركشة والمزدانة بالأجراس والخرز والشباشيل، ويمشي بمقدمة هذه الجمال حملة الطبول المزركشة، وأهل كفرسوسة بالهتاف، ومنهم من يقوم بلعب السيف والترس، ومن الصبية من يقوم بلعبة الحكم، وهي كلعبة السيف والترس، إلا أنها تستخدم فيها العصي بدل السيف والتروس الجلدية.
فإذا وصل الموكب إلى مدخل سوق باب السريجة من جهة الغرب ينضم إليه أهل باب السريجة من الرجال والشبان، ويتقدم الموكب سنجق أخضر مكتوب عليه الآيات القرآنية والحكم، فيفرد ذلك السنجق (العلم) بشراشيبه الحمراء وخلفه المدافع (الدوبكات) والطبول، ثم يتابع الموكب سيرة بباب الجابية ثم إلى سوق الدرويشية، ومن ثم إلى مركز الطلار التي تحفظ به عائدات محمل الحج الشامي إلى يوم انطلاق القافلة إلى الديار المقدسة.
أما اليوم الثالث من أيام عيد الفطر فقد كان للاحتفال بالشمع وماء الزهر والملبس والسكاكر التي كانت تحمل إلى الحرمين الشريفين كل عام بصحبة قافلة الحج الشامي.
فيسكب ذلك الشمع بدار أحد وجهاء دمشق قصد التبرك.. ووزن هذا الشمع نحو ثلاثة قناطير، فيحمل ذلك الشمع على أكتاف الرجال ملفوفاً بالشال والكشمير، وصولاً إلى دار أو موقع الطلار المشار إليه (بالسنجق دار) حيث يحفظ إلى يوم انطلاق القافلة.
كما يحتفل بهذا اليوم الثالث من أيام العيد (شوال) بنقل ماء الورد إلى الطلار، كان ماء الورد على أهل المزة بدمشق التي اشتهرت بخصوبة تربتها وهوائها العليل الصافي وكان وزن ماء الورد هذا نحو قنطار، وبالطبع فإن الشمع كان لإنارة الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة وماء الورد لتعطير الحرمين الشريفين، وهذه سنة سار عليها الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (ر).
كما يحمل بهذا اليوم الثالث من عيد الفطر إلى سدنة الحرمين الشريفين الملبس والسكاكر وقد بلغ وزن تلك السكاكر والملبس نحو عشرة أرطال.
ويكون نقل ذلك الشمع وماء الزهر والملبس إلى مركز الطلار باحتفال بهيج يسير في مقدمته الموسيقى وخلفها أصحاب الرتب والأشراف من آل البيت فضلاً عن الوجهاء والعامة، ويرافق ذلك مشاعل البخور عن يمين وعن يسار الموكب حتى وصول الموكب مركز الطلار المشار إليه.
وكان اليوم الرابع من أيام عيد الفطر للاحتفال بخروج السنجق من القلعة، وهو محمول على جمل يمسك به موظف خاص، يلبس هنداماً خاصاً لهذه المناسبة وقد كانت الجماهير تحيط بذلك الجمل اعتقاداً منها أن لمسه يجلب الخير والبركة.
وكان يسير في مقدمة موكب السنجق الموسيقي والمؤذنون وعموم سناجق القطع العسكرية بدمشق. فيخرجون السنجق بعد صلاة عصر ذلك اليوم من باب قلعة دمشق وهو الباب المعروف باسم البوابجية إلى سوق السروجية ثم إلى السراي، فيكون في استقباله والي دمشق، أو من فيه حكمه، ومن ثم يوضع السنجق في المشيرية (السراي) إلى يوم خروج قافلة الحج إلى الديار المقدسة.
والسنجق في الأصل، هو علم النبي (ص) وكان يسمى بالعقاب، كانوا يرفعونه أمام قافلة الحج، كما ينشرونه إذا دعا داعي الجهاد، وقد انتقل السنجق إلى الأمويين ثم إلى العباسيين فالفاطميين ثم إلى المماليك وأعيد إلى دمشق بعد القضاء على دولة المماليك على يد السلطان العثماني سليم الأول، وبعدها نقل إلى استانبول، زمن سنان باشا، ووضعت عليه حراسة مشددة، بغرفة خاصة بالباب العالي.
أما يوم الثامن من شوال فيكون به الاحتفال بدورة المحمل والسنجق بالجانب الجنوبي والشرقي والشمالي من مدينة دمشق ويرافق المحمل والسنجق بهذه الدورة عساكر الشام وهم بأحسن لباس ومغرقون بالأسلحة المطلية بالذهب.
وقد اعتبرت هذه الدورة من باب اشعار المواطنين باهتمام السلطة بالشعائر الدينية، لكنها كانت ترمي إلى إظهار قوة الدولة وبأسها، وإحكام سيطرتها على البلاد تجاه كل من تسول له نفسه العبث بالأمن وهكذا تجتمع القوى العسكرية المشاركة من فجر ذلك اليوم، فيخرج من باب السرايا جند السكمانية والأرناؤوطية والينتشرية والسباهية والخيالة وعسكر القلعة وأغواتهم وأكابر الدولة وقاضي المحمل وأول ما يخرج التخوت (ج. م. تختروان) مزينة بأحلى زينة ومعهم العكامة، ويرافق ذلك الجمال المزينة بأنواع الزينة والأطالس، ثم يخرج أمير ركب الحج، يتفقد الموكب وسلامة الطريق التي سيسلكها بهذه الدورة، عبر مرقص السودان (شارع البدوي) عن طريق السنانية، ثم إلى الشاغور، فباب كيسان وبعدها إلى باب شرقي والشيخ أرسلان، ثم إلى برج الروس، فالسادات والعمارة والأبارين، مروراً بالسروجية، فأسفل الحدرة (نزلة جورة الحدباء) وبعد ذلك إلى السرايا، فإذا دخل المحمل والسنجق السرايا بعد هذه الدورة يدخل الأمير والجند قدامه ومن ثم يقدم للجميع الطعام من سائر الألوان، في حين يطوى السنجق وتوضع جميع حوائج المحمل بصناديق مختومة إلى يوم طلوع قافلة الحج إلى الديار المقدسة بالمدينة المنورة ومكة المكرمة.
وكان أبهى المواكب التي شهدتها دمشق يوم وداع المحمل والسنجق بطريقهما إلى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة وغالباً ما يكون هذا اليوم منتصف شهر شوال، وقد أسهب الباحثون والسياح الأجانب في إلقاء الأضواء على هذه الدورة وبخاصة فرحة أهل دمشق وما جاورهم والقادمون إلى دمشق للاستمتاع بهذا الموكب.
ففي هذا اليوم يخرج السنجق والمحمل بطرازهما الموشى البديع والمزركش بالقصب المذهب باحتفال مهيب من باب المشيربة (السرايا) ويمشي وراءهما والي دمشق وأمير الحج وأمين الصرة الذي يعهد إليه حمل المال اللازم لنجدة قافلة الحج وهي في طريق عودتها إلى دمشق ومد هذه القافلة بالمعونة اللازمة.
كما يسير بهذا الموكب أرباب الوظائف الرسمية والعسكرية وأصحاب الرتب من الأهلين بالألبسة المطرزة بالذهب ويحيط بالمحمل والسنجق أرباب الطوائف الصوفية وهم يذكرون اللـه تعالى، كما يرافق الموكب الموسيقا وخلفها البوليس والجندرمة، ثم المأمورون بالمحافظة حتى وصول القافلة إلى مكة المكرمة.
وكانت الجماهير وراء الموكب وعلى أسطحة المنازل وقوفاً قصد التبرّك.
يخرج هذا الموقف من السرايا، الواقع عند سوق الدرويشية هذا السوق الذي يمتد من باب القلعة إلى باب الجابية فيتوجه الموكب إلى بوابة الله بالميدان للانطلاق إلى المدينة المنورة فمكة المكرمة، ويمر خلال ذلك بسوق الستاتية وسوق النحاتين وسوق الغنم والسويقة وباب مصلى وسوق الميدان التحتاني والوسطاني والفوقاني وتكون هذه الأسواق غاصة بالجماهير قصد التبرّك والتمتع بهذه المشاهد الفريدة، كما تكون هذه الأسواق غاصة بالباعة والمشترين.
ولدى وصول الموكب إلى موقع مصطبة سعد الدين، حيث ضريح الشيخ سعد الدين الجباوي مؤسس الطريقة السعدية الجباوية الصوفية بدمشق.
يتوقف هذا الموكب، ويخرج شيخ الطريقة من المقام ويتقدم من الجمل الذي يحمل السنجق، ومن الجمل الذي يحمل المحمل، ويلقم كل منهما كتلة من معجون الجوز واللوز والفستق الحلبي مع السكر، فتتساقط من شدقي كل من الجملين بعض الفُتاة التي يتهافت على التقاطها (قصد التبرّك) العديد من المواطنين.
وأمير الحج تارة يستعرض الجند، وتارة يعود إلى مكانه بالموكب، فإذا وصل الموكب إلى موقع قبة الحاج يترجل العساكر وأصحاب المناصب والقضاة والمفتون، وينزلون بخيام خاصة، ويجري تسليم المحمل والسنجق إلى أمير الركب من قبل القضاة والمفتين، ومن ثم يرجع أهل الموكب إلى دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن