الأولى

أردوغان وتَجَمّع الاستحقاقات

| بيروت – محمد عبيد

هل كان ليتخيل رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان أن الاستحقاقات ستتجمع في وقت واحد لتفرض عليه اتخاذ خيارات حاسمة؟ بل إن التساؤل الأهم هو هل مازال بمقدوره فعلاً الاستمرار بالمواربة والتحايل على الوقائع التي باتت تحاصره من كل جانب؟
أردوغان الممسك بمفاصل السلطة من مواقع عدة منذ العام 2002، يقف اليوم على حافة مواجهات متعددة داخلية وخارجية، أبرزها: على المستوى الداخلي، يواجه النظام السياسي التركي اختباراً لقدرته على احتواء تداعيات الضغوطات الأميركية النقدية فيما يتعلق بانهيار سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، بما يؤدي إلى تضخم في الأسعار وعدم قدرة الحكومة التركية على ضبط حركة السوق وانعكاس ذلك زعزعة في البنية الاقتصادية التي شكلت ركيزة أساسية من ركائز صعود أردوغان شخصياً ومعه حزبه.
إلا أن ذلك يمكن أن يؤدي في الوقت ذاته إلى استفادة أردوغان وحزبه من هذه الضغوطات في حال تمكن من تجييرها سياسياً لمصلحته، وذلك من خلال تصوير المواجهة بينه وبين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على أنها تحدٍ لمنع تدجين تركيا وتحجيم دورها الإقليمي الواسع الذي اكتسبته إثر انفتاحها على العالمين العربي والإسلامي وبعد تعزيز علاقاتها مع روسيا، ومن ثم تَمَكّنه من شد عصب محازبيه وجمهوره، وفي حال حصول ذلك فإنه قد يعني تكريساً لاستمرار أردوغان وحزبه في السلطة على حساب تراجع وزعزعة الاقتصاد التركي.
وما يعزز احتمال الوصول إلى هذه الخلاصة هو تمكن أردوغان و«بلطجيته» من إفشال الانقلاب عليه في الخامس عشر من شهر تموز من العام 2016، والأهم إتباع هذا الإفشال بحملات التصفية السياسية والإدارية والاجتماعية لجميع معارضيه الفعليين والمحتملين حتى يومنا هذا، ومن ثم إسقاط أي إمكانية لمواجهته داخلياً عبر قيام معارضة قادرة على النيل منه ولو من بوابة التشكيك بقدرته على الاستمرار في قيادة البلاد اقتصادياً وسياسياً نحو الأفضل.
أما على المستوى الخارجي، فإن الصورة أعقد منها داخلياً. إذ إن أردوغان يقف أمام استحقاق «سوري» حاول ويحاول تأجيله لكن لا مفر منه. كان يأمل رئيس النظام التركي أن تتأخر عملية تحرير الجنوب السوري من المجموعات الإرهابية بما يتيح له الوقت الكافي لترتيب الوضع العسكري والديموغرافي في المناطق التي يحتلها مباشرة في الشمال السوري، وفي تلك التي يسيطر عليها استخباراتياً من خلال إمساكه بمعابر وطرق الإمداد والتموين للمجموعات الإرهابية المسيطرة في مدينة إدلب وبعض ريفها إضافة إلى أجزاء من أرياف حماة وحلب واللاذقية. وكان يراهن على الاستفادة من الذريعة التي ساقها حول حق بلاده في ضرب أي إمكانية لقيام كانتون كردي ملاصق لحدودها، وذلك نظراً للتداخل العرقي والاجتماعي بين طرفي الحدود وتأثير ذلك في الواقع السياسي والأمني داخلياً.
لذلك فإن الانهيار السريع للمجموعات الإرهابية ورعاتها في الجنوب السوري وترافقه مع تزايد في قدرات الجيش العربي السوري عدة وعديداً، إضافة إلى إعداده الخطط العسكرية مسبقاً للانتقال السريع لتحرير الشمال السوري، كل ذلك وضع نظام أردوغان أمام استحقاق عاجل يتمثل بحتمية اندفاع الجيش العربي السوري نحو الحدود واضطراره لسحب قواته المحتلة من الأراضي السورية وإغلاق المنافذ والممرات التي يوفرها لبقاء وصمود المجموعات الإرهابية في تلك المناطق، خصوصاً أن هذه المجموعات تتجرأ يوماً بعد يوم على إرسال طائرات مسيرة متفجرة إلى قاعدة «حميميم» الروسية.
إلى جانب أن المناورة بورقة الذريعة الكردية لم تعد ممكنة بعد انطلاق حوار بين بعض ممثلي الأحزاب السورية الكردية وبين ممثلين عن الحكومة في دمشق تحت سقف التسليم المطلق بمرجعية الدولة السورية ومركزيتها ووحدة الشعب والأراضي السورية، وسقوط أوهام الحكم الذاتي أو حتى الإدارة المحلية.
لم يعد أمام أردوغان سوى تثبيت تموضعه المفترض بعد انضمامه إلى ثلاثي «أستانا»، ولم يعد بإمكانه أيضاً اللعب كثيراً وطويلاً على حبال التناقضات الإقليمية والدولية، خصوصاً مع تصاعد المواجهة السياسية والاقتصادية بين واشنطن وطهران من جهة وبينها وبين موسكو من جهة أخرى، هذه المواجهة التي ستفرض اصطفافات حادة على جميع المتحاربين والمتفرجين في الإقليم والعالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن