اقتصاد

زحمة «منصّات»!

| علي محمود هاشم

يحتاج لبنان والأردن إلى أكثر من تصوراتهما الذاتية عن «أهميتهما» الحيوية كخواصر أمنية لسورية، لدى تعظيم شأن جغرافيتهما في إعادة إعمارها.
هذه الأطروحات المدفوعة بمخيلة رغائبية تسوقها فوق جسر القرم، كان أعلنها مراراً وزراء ومسؤولون أردنيون مع المسؤولين الروس، قبل أن يحذو لبنانيون حذوهم منذ أيام.. بعضهم جزم، من أعلى الجسر، بأن بلاده ستكون «منصة لإحياء اقتصاد سورية المجاورة.. وإعادة إعمارها»، على حين ذهب آخر إلى أن بلاده «تعمل» مع روسيا لـ«تكون مركزاً لوجستياً لإعادة إعمار سورية» وإلى تنسيق اجتماعات لـ«مجلس رجال أعماله» مع رجال الأعمال الروس، للتفاهم على الأمر!.
لا يسع المرء التعرض لهذه الأمنيات الشقيّة، دون اتهام نفسه بالتعريض -غير المرغوب- بأصحابها وبخلفياتها، إلا أن تكاثف وتائرها مؤخراً، يبدو أكثر من موجب لاستعراض واقعيتها، على الأقل.
يعاني لبنان مشكلة بنيوية في إعادة إعماره منذ ما بعد الحرب، أفصح الأمثلة في هذه الجانب، يتجسد ذلك بفشله في تأهيل الطرق البرّية التي تربط موانئه على المتوسط بالمنافذ الحدودية السورية رغم إقرار خطة بهذا الشأن منذ تسعينيات القرن الماضي، على حين أزمة التمويل ما فتئت تتغلغل في جسد اقتصاده العليل.. وفق ذلك، تبرز طروحات اعتماده كمنصة لإعمار سورية مجرد انعكاس لطيف للشخصية اللبنانية القادرة على جمع المتناقضات، لكنه في المقابل، يتقاطع عمودياً مع العقل الشامي ذي التراكم الهادئ.
جنوباً، حيث تقطعت السبل باقتصاد المملكة الجارة «غير الشهيرة بنظامها المالي» إبان ذهابها إلى تسليم مسلحي «تنظيم القاعدة»، منفذها الحدودي وملحقاته التجارية مع سورية، ليعاني اقتصادها الأمرين.. إعادتها إلى أرض الواقع، تستوجب التساؤل -مثلاً- عن خسائر صادراتها إلى روسيا جراء فعلتها تلك، في سياق قياس فعالية أطروحاتها لإعمار سورية عبر جسر القرم!
بالطبع، رغبات كلا الشقيقين باضطلاعهما في إعادة إعمار سورية، تلقي بجسدها فوق موانئ «شهيرة» ذاع صيت ضلوعها بتوريد «الحرامات والحليب» و«سيارات التويوتا المجهزة بحوامل دوشكا» لتدمير عمران سورية قبل سنوات.
«ميناء» طرابلس، اللبناني، ذو سلسلة «لطف اللـه» الشهيرة، يتوجب أن تحمرّ أرصفته خجلاً من طلب المشاركة بإعمار سورية، أقله حين تراوده الذكريات بأنه استُعمل كإحدى منصات تدميرها بشحنات «الحليب والبطانيات» التي أرسلتها مملكة السعودية لـ«طفالى وأبريا» المهاجرين الأجانب بلحاهم الوهابية، إلى ريفي إدلب وحلب.
أما العقبة، الأردني، الذي يحتفظ بـ«CV» بارد وفقير خلا إنجازه الفريد بتوريد سيارات «التويوتا» إلى «أمير درعا» أبو جليبيب الأردني، فلا يصلح حتى لتصدير أو استيراد احتياجات المملكة، فكيف له أن يكون منصة منافسة لإعمار سورية؟
بوضوح أكثر.. فميناء طرابلس الذي تتباهى رافعاته -إلى حدود استفزازية- بارتداء العقال السعودي، على حين يستلمح فوق سواريها أعلام فرنسية بثلاثة نجوم، لن يستوي مشاعر السوريين، أما العقبة، خالي التنافسية، فليس أكثر من منصة تمويهية لميناء حيفا «الإسرائيلي» الذي لطالما عبر وزير بناه التحتية الصهيوني بتحويل مدينة المفرق الحدودية إلى مينائه الجاف لإعمار سورية، استنساخاً لتجربته التجارية الناجحة مع تركيا ودول الخليج!
والحال كذلك، ومع تعطل المنصة العراقية لأسباب منسوجة من زجلية «النأي بالنفس»، والتركية لأسباب موضوعية، فلا خيارات أمام إعمار سورية سوى السعودية أو «إسرائيل»، أو خلطة سرية من كليهما على غرار تعاونهما «المثمر» في ملفات المنطقة!
بالله عليكم، ما هذه الخفة الخالية من «التلافيف» أيها الأشقاء الأعزاء؟
على العموم، سيكون الأشقاء الحقيقيون، اللبنانيون والأردنيون، في قلب إعمار سورية، لكن عبر منصتها هي، وبعد الدخول من بابها، لا شبّاكها.
هذا الأمر منوط بهما، وبوضوح أهدافهما وخياراتهما، إذ لا يظهر -مثلاً- كيف لدولتين جارتين تشهران بمناسبة أو من دونها معاناتهما الأمرين جراء تثاقل ملف المهجرين السوريين على أراضيهما، وقرحتا مسامعنا ليل نهار عما يعانيانه جراء ذلك، لكنهما لا يتجرأان على إعادتهم إلى بلدهم؟ فكيف سيتمكنان إذاً من لعب دور المنصة في مشروع ذي تقاطعات سياسية غاية في التعقيد كما هي حال إعادة إعمار سورية؟
إظهار الأمر وكأنه رغبة ذاتية فقط «حرة ومستقلة» لا سعودية أو إسرائيلية، أو أن ذاك ممنوع لكن هذا مسموح، إنما يثير الريبة حيال أهدافه الحقيقية لا الاقتصادية، فرائحة الحليب، وآثار عجلات التويوتا، ما زالتا تزكمان الهواء والتراب السوريين!
السادة الأشقاء والأصدقاء، المنصة الطبيعية لإعمار سورية هي موانئها.. لا أحد يطلب من العرش الهاشمي الانفكاك عن إسرائيل، ولا للبنان عن العرش السعودي، لكن لا أحد سيسمح بردم اقتصادية الموانئ السورية، بالطمي السياسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن