ثقافة وفن

طريق الحرير أسهم بشكل كبير في تكوين الإنسان السوري … أسهم العرب والصينيون في تأسيس حزام ثقافي

| المهندس علي المبيض

بداية أود أن أوضح أن هذه المقالات التي نقوم بنشرها أسبوعياً ليست تاريخية بحتة، ولا نهدف من خلال الحديث عن طريق الحرير التاريخي وسواه من أحداث ووقائع التاريخ السوري العريق أن نروي روايات للتسلية وتمضية الوقت أو نسرد قصصاً خياليةً، كما لا نهدف من خلالها القيام بجولة على المواقع الأثرية في سورية أو التعرف عليها وحسب ولا الوقوف على الأطلال والتباكي عليها بل هي عبارة عن إضاءات بسيطة على التراث الثقافي السوري ومحاولة متواضعة لتسليط الضوء على نقاط القوة فيه وعرض بعض الصور من تاريخنا المشرق الذي يروي قصة حضارات وممالك تعاقبت على كامل الجغرافيا السورية قام ببنائها وكتابة أسطر مجدها جميع السوريين، ولما كان الماضي يعود غداً فإن هناك ضرورة بالغة لفهم الماضي ومعرفته بدقة والبحث في كيفية الاستفادة منه واستثماره، وهو ضرورة حتمية لاستكشاف المستقبل.

إن معرفة الموروث الثقافي السوري وعلى اختلاف أنواعه إنما هو ضرورة ملحة لتأكيد ذاتنا والحفاظ على هويتنا وخصوصية وطننا ووسيلتنا في الوقت ذاته للدفاع عن سورية إضافة إلى أن هذا الموروث هو الطريق السليم للتفاهم مع الشعوب الأخرى وتقريب وجهات النظر.
واستكمالاً لحديثنا السابق عن طريق الحرير نؤكد أن هنالك حاجة ماسة لفهم ماضي الدول والممالك التي قامت على طريق الحرير والعوامل التي أدت إلى قوة هذا الطريق وأسباب ضعفه واستيعاب الضوابط والمعايير المتعلقة به التي ساهمت في بقاء هذه المنطقة مركز إشعاع حضاري مهماً ولفترات زمنية طويلة.
كان لموقف الصينيين السلمي من المسلمين بشكل عام عندما وصل امتداد الدولة الإسلامية إلى الحدود الغربية للصين أكبر الأثر في بسط الأمن والأمان على طريق الحرير وتطور التجارة بين الصين وبين القادمين الجدد الذين اقتربوا من حدودهم، وقد استطاع الصينيون بحكمتهم المعهودة التكيف مع الظروف الدولية الجديدة التي غيرت عوامل التوازن الاقتصادي في المنطقة فسارعوا بعقد اتفاقيات مع المسلمين وعقدوا تحالفات اقتصادية لتطوير النشاط التجاري، وانطلق الصينيون مجدداً لنقل بضائعهم لمنطقتنا وسهلوا بالمقابل للتجار العرب الوصول إلى بلادهم والإقامة بها لمزاولة التجارة بحرية ومن دون قيود.
ولابد من الإشارة أيضاً إلى أن مصطلح طريق الحرير حديث نسبياً، حيث أطلق على خط المواصلات البرية القديمة الممتدّ من الصين وعبر مناطق غرب وشمال الصين وآسيا كلها إلى إفريقية وأوروبا في منتصف القرن التاسع عشر من العالم الجغرافي الألماني البارون فرديناد فون ريتشهوفن.
وتروي الأساطير: إن اكتشاف الحرير كان نحو عام 2700 قبل الميلاد في حديقة قصر الإمبراطور الصيني هوانجدي حين طلب من زوجته معرفة سبب تلف أوراق شجر التوت، عندها وجدت ديدان بيضاء تتغذى على أوراق التوت وتقوم بغزل شرانق لامعة، لذلك فإن المؤرخين يجمعون على أن الحرير قد اكتشف في الصين وأصبح مادة تجارية مهمة بين الصين والعالم أجمع.
كان لطريق الحرير تأثير كبير في ازدهار كثير من الإمبراطوريات القديمة مثل الصينية والفارسية والهندية والرومانية… ويكفي لبيان أثره وأهميته أنه في القرن العاشر الميلادي امتلكت الصين مخزوناً من الذهب أكبر ممّا امتلكته أوروبا مجتمعة.
ويمتد طريق الحرير من المراكز التجارية في شمال الصين باتجاه الشرق وكان يمرّ قسم منه في قوافل شهيرة إلى نصيبين وتدمر عبر بلاد ما بين النهرين والعراق ودمشق إلى البحر الأبيض المتوسط وحتى البحر الأسود وعبر مرمرة وصولاً للبندقية أو جنوباً إلى مصر وشمال إفريقيا، كما صبت الطرق الفرعية في طريقين رئيسين أحدهما شمالي تسلكه القوافل صيفاً، والآخر جنوبي تسلكه شتاء، ومع مرور الوقت اكتشف التجّار أن المسارات البحرية أكثر أمناً، وتزامن ذلك مع اشتعال الحروب المغولية الإسلامية في وسط آسيا وشيئاً فشيئاً اندثرت معالم طريق الحرير وصارت البضائع والثقافات والعادات تنتقل في مسارات بحرية منتظمة، تتوجّه عبر المحيط الهندي من مرافئ آسيا الجنوبية إلى شمال إفريقية مروراً بالبحر الأحمر، حيث توقف طريق الحرير كخط ملاحي خلال الاحتلال العثماني.
وبفضل طريق الحرير فقد ساهم العرب والصينيون بشكل كبير في تأسيس حزام ثقافي وفني… على طول الطريق، وقد استمرت حركة التبادل الثقافي الثرية بين الصين ومنطقتنا قروناً طويلة.
وكان للسوريين دور كبير ومهم جداً في نقل الثقافة الصينية والفنون والمعارف إلى العالم وتعريفهم بها، ولم يكن السوريون مجرد ناقلين لها بل قاموا بدراستها والاستفادة منها، واستوعب السوريون هذه المعارف والفنون والمهارات والثقافات ودمجوها مع تراثهم العريق وخرجوا بمنتج جديد متطور سواء كان المنتج ثقافياً أو فنياً…. كما استفاد السوري من مهارات وفنون الصناعات التقليدية القادمة من الشرق فطور بذلك الصناعات التقليدية السورية التي سيطرت على الأسواق في تلك الفترة وغدت أحد مكونات الشخصية السورية.
وكما ذكرنا في المقال السابق بأن طريق الحرير كان طريقاً باتجاهين فقد نقل الصينيون للغرب الحرير وصناعة الورق واستخدام البوصلة، كذلك فقد نقل التجار للصين علوم الرياضيات التي برع بها العلماء أمثال الفارابي والخوارزمي وابن الهيثم، كما نقلوا صناعات شتى وفنوناً متنوعة كان السوريون لهم باع طويل فيها.
وساهم الفن الصيني في تشكيل خريطة الفن الإسلامي فيما بعد وذلك من خلال إدخال العديد من الألوان الفنية الصينية كاستخدام الأشكال الهندسية وآلات القتال والأختام المربعة والملابس ورسم صور الأشخاص والزخرفة وتداخلت الفنون الصينية والفنون السورية بصورة حلزونية ومتداخلة وعكست كل منها حيوية التطور المستمر المشترك بينهما الذي لعب على التشابه أحياناً والاختلاف أحياناً أخرى.
دمشق كانت محطة مهمة على هذا الطريق وكانت السوق الرئيسية في بلاد الشام للتوابل، وهذا السوق واسع ومتنوع وليس بالشيء السهل نهائياً وخصوصاً إذا علمنا أن80% من المأكولات في أوروبا كانت تدخل في مكوناتها التوابل، ولم تكن التوابل تُستعمَل فقط في الطعام بل استُعملت في الأدوية ومستحضرات التجميل وصباغة الألوان… إلى آخره، لذلك كان الطلب عليها شديداً وشكل حركة اقتصادية نشطة جداً في دمشق.
تدمر أيضاً كانت تقع على طريق الحرير وفي مركز شبكة مواصلات تجارية مهمة جداً، وتتميز تدمر أن القوافل كانت تصل إليها من البر ومن البحر، وهنا تكمن أهمية تدمر لأنه إذا انقطع الطريق البري، وكان ينقطع من وقت لآخر بسبب الحروب كانت البضائع تصل إليها عن طريق البحر حيث تدخل السفن عبر الخليج العربي ومن ثم تُنقَل عبر العراق وصولاً إلى تدمر، وعن طريق البر عبر بلاد فارس والعراق ومن ثم تدمر، إذا تكمن أهمية تدمر أنها كانت مركز توزيع البضائع الآتية من الشرق وأيضاً ملتقى القوافل الآتية من الغرب التي ستكمل طريقها باتجاه الشرق الأقصى، ومن هنا كانت تدمر موضع اهتمام الرومان ومحاولاتهم المستمرة للسيطرة عليها وذلك تمهيداً للسيطرة على كل التجارة الدولية في منطقة بلاد الشام.
وشهدت التجمعات السكانية القاطنة على امتداد طريق الحرير تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والآداب، وما لبثت أن ازدهرت وتمازجت فيها اللغات والأديان والثقافات.
ومع مرور الوقت ظهرت الحاجة لتأمين الخدمات اللازمة والضرورية للحركة التجارية على طريق الحرير حيث شيدت الخانات التي تؤوي القوافل، وأدى ذلك إلى ظهور شبكة من خانات القوافل امتدت على طول الطريق، وكان كل خان يبعد عن الخان الذي يليه مسيرة يوم واحد، وهي مسافة مثالية هدفها الحيلولة دون أن تضطر القوافل المحملة بالبضائع الثمينة لأن تبيت في العراء وتكون عرضة لمخاطر الطريق وأدى ذلك إلى بناء خان كل ٣٠ إلى ٤٠ كيلومتراً.
إلا أن الإرث العريق والمستمر لهذه الشبكة المذهلة يظهر في الثقافات واللغات والعادات والأديان العديدة التي تطورت وازدهرت بمحاذاة هذه الطرق فأدى ذلك إلى تفاعل ثقافي مستمر.
جاء اكتشاف فاسكو دي غاما لرأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر ليؤمن طريقاً تجارياً جديداً يصل الغرب بالشرق بديلاً من طريق الحرير، وقد إثر هذا الاكتشاف في أهمية طريق الحرير وتجلى ذلك في فتور الحركة الاقتصادية وضعف النشاط التجاري في بلاد الشام ومصر، وشهد الطريق البري تراجعاً تدريجياً إلى أن انهار نهائياً، وبدأ يضعف الطريق البحري أيضاً نوعاً ما مع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وبعد ذلك افتتاح قناة السويس عام 1869 مع أن ذلك سرّع حركة التجارة مع الشرق الأقصى ولكن عملياً فقد ساهم ذلك باختفاء طريق الحرير.
أود هنا أن أشير إلى نقطة مهمة جداً ونحن نتحدث عن طريق الحرير وأهميته والدور التجاري الذي كان يؤديه والحزام الثقافي الذي شكله للبلدان التي كان يمر بها، وهي أن وقوع سورية كمحطة من محطات طريق الحرير المهمة قد أسهم بشكل كبير في تكوين الإنسان السوري وتعامله مع الأحداث والظروف المختلفة التي يمر بها وتتمثل برأيي الشخصي ببعض الملامح والصفات، منها على سبيل المثال:
الانفتاح على الآخر في تبادل الثقافات والفنون والعادات.. ما أكسبه خبرات ومهارات ومعارف متعددة وشكل لديه مخزوناً ثقافياً ومعرفياً متنوعاً وثرياً وبالتالي عزز لديه القدرة على العيش المشترك مع مختلف الثقافات.
المرونة والتكيف بحكم أن طبيعة العلاقات التجارية تقتضي من التاجر أن يكون مرناً واسع الصدر يستوعب كل نوعيات الزبائن سواءً كان الزبون بائعاً أم شارياً، ما شكل لدى السوري القدرة على التكيف مع الظروف والأحداث التي يمر بها.
الدبلوماسية لأن النجاح في التجارة تعتمد بشكل رئيسي على براعة تسويق المنتج والذي تفرض على التاجر أن يكون دبلوماسياً ولديه مقدرة على فهم نفسية الزبون واستيعابه والبحث عن طريقة لإقناعه، الأمر الذي جعل السوري بارعاً في تدوير الزوايا وتقريب وجهات النظر.
وحين نعتبر أن مرور طريق الحرير في سورية ساهم بتكوين شخصية السوري وذلك خلال مراحل زمنية طويلة جداً تمتد على طول التاريخ السوري والذي كما أسلفنا بالحديث عنه سابقاً يمتد لآلاف السنوات، وهذه الملامح انتقلت بالجينات من جيل إلى جيل حتى أصبحت من طبيعته وشخصيته.
هذه الصفات إضافة لعدة عوامل أخرى أدت إلى أن يتعامل السوري مع الأحداث بشكل واقعي ومنفتح ومعتدل ومتوازن، والذي يستعرض الوقائع العديدة التي مرت على سورية خلال تاريخها الطويل ومن يدرس نشوء الممالك والإمبراطوريات التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة ويحلل أسباب زوالها يدرك تماماً ما نرمي إليه، والذي يقرأ التاريخ السوري سيذهل بحجم وعدد الحملات العسكرية التي شنت على منطقتنا وعلى اختلاف مسمياتها وتنوع وتعدد اسبابها، حيث كانت سورية ومنذ نشوئها وبحكم الكثير من الأسباب مطمعاً للعديد من الدول والإمبراطوريات وتعرضت للكثير من الحروب والكوارث والفتن سواء كان ذلك في التاريخ القديم أو المعاصر، وبالرغم من ذلك فقد استطاع السوريون أن يستمروا ويتواصلوا مع الآخرين وبقوة، ولم يسجل التاريخ نهائياً أن هذه البقعة الطاهرة غابت عن مسرح الأحداث بل استطاعت أن تستوعب وتمتص كل الصدمات التي تعرضت لها وخرجت من المحن والكوارث التي تعرضت لها أقوى من قبل.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض الطاهرة..
نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال..
جيلاً بعد جيل.
سورية الراسخة..
سورية الشامخة..
ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت طوال عمرها المديد كل الأزمات التي مرت بها.
وللحديث بقية…
معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن