ثقافة وفن

فبركة التاريخ عبر الدراما.. سيرة المهلب غير الدرامية … من السهل معرفة ما إذا كان الإسقاط بريئاً أم لا!

| أحمد محمد السح

سعت شركات الإنتاج الدرامية إلى الارتكاس لسياسة السلطة والمال، حيث المال الخليجي في البلاد العربية ما زال قادراً على تليين النفوس في ظل أزمات إنتاجية، وإنسانية تجتاح الشعوب وهذا ما عملت عليه دول الخليج مستفيدة من نجاح الدراما السورية ونجومية ممثليها، بناءً على مفاهيم قبلية تلبس لبوساً إسلامياً، تحت مسمى السيرة التاريخية، وهو ما عملت عليه قطر قبل سنوات حين أنتجت عمل «القعقاع بن عمرو التميمي» لاعتبار أن القعقاع تميمي والقبيلة الحاكمة تدعي هذا النسب، واليوم تكرر الإمارات هذه التجربة مع مسلسل المهلب بن أبي صفرة، الذي لا ينفك الممثلون عبر حواراتهم بذكر نسبه «المهلب بن ظالم بن سارق الدوسري الأزدي» أو التذكير بحديث ضعيف للنبي العربي محمد (ص): «جُعلت الأمانة في الأزد» فينسبها الكاتب قولاً من مقولات العرب، لأن هذا الحديث منسوخ من كتب الحديث لضعفه، الإماراتيون يعتبرون أنفسهم «أزديين» إذاً نحن أمام صراع عشائري قبلي جديد يلوح في الأفق بعد أن أكلت التفرقة الطائفية عقول المنطقة؛ وكان المال الخليجي خير من أجّج له، وعلى الرغم من المحاولات التجميلية الفجة للشخصيات التي لا توجد عنها قصة، إلا أن العمل يحاول إظهار شخصية ظالم «خالد القيش» بالشخصية الحكيمة القاسية، من خلال ابتداع قصة كتاب منسوخ على صفائح ذهب وجده مرمياً على شاطئ البحر، الغريب أن الكاتب لم يخطر بباله أن يطلع الجمهور على محتوى كتابٍ إغريقي لفيلسوفٍ إغريقي بعينه، مع أن هذا ممكن بالقليل من البحث، فراح ينسج جملاً عامة تظهر أفكاراً إنسانية عامة بعضها لا تنتسب إلى الفلسفة اليونانية بل إلى «شرعة حقوق الإنسان» لإظهار مدى اطلاع الشخصيات وسبقية زمنها، مع المحافظة على أن محتوى الكتاب مكتوب بلغةٍ عربية جزلةٍ، هذا إن اقتنعنا أصلاً أن الإغريق ينسخون كتبهم على صفائح من ذهب، حتى أن توهة الكاتب جعلته يتساءل على لسان شخصياته كما نتساءل نحن اليوم: هل كانت المعلقات التي علقت على أستار الكعبة مكتوبة بماء الذهب أم لا، وجاء هذا على لسان مؤدب المهلب وهو طفل وبحسبةٍ بسيطة سنكتشف أن المدى الزمني لا يتجاوز خمسة عشر عاماً (المهلب مولود 8 للهجرة) أي من الممكن وجود ناس عايشوا تعليق المعلقات لو حصل ومن ثم كان أراحنا وحسم الأمر!
جاءت حكايات الجواري وتقلب شخصياتها ومزاجها، مفيدةً في أمرين أساسيين أحدهما الهروب من التغلغل في السيرة الذاتية للمهلب نظراً لنقص المعلومات فثلث المسلسل الأول يتحدث عن طفولته، أما الأمر المفيد الثاني فهو قائمٌ على إظهار حسن التعامل والخوض في مفهوم الجواري وملك اليمين والتركيز على التشريعات فيه، لكونه يوجّه رسالة بعد أن عادت هذه الظواهر لتطل برأسها بشكل واضح من جديد، أما عن حرب الردة ومسألة دبا والتهجير منها إلى الخارج، فحاكاها العمل محاكاة سطحية وابتعد عن ظالم بن سراق (لا أعرف لما ذكروه في العمل: سارق) والد المهلب، ونسبوها إلى شخصية لقيط بن مالك الذي ادعى النبوة ولم يجرؤ الكاتب على الخوض في هذه الحادثة، للتهرب من الاختلاف في الروايات حول علاقة والد المهلب بالردة، أو حتى إسلامه حين أسر أو مواليده فيقول الواقدي «كان أبو صفرة غلاماً لم يبلغ الحلم». فالكاتب ينسج حكايةً درامية عن الحب بين المهلب وابنة جارية أبيه لتكون مبرراً درامياً للحروب التي ستنشب بينه وبين صديق طفولته الفارس والشاعر قطري بن الفجاءة، الذي سيظهر لنا في مظهر ناقض عهد الصداقة والمتوحش، رافع السيف في وجه المهلب الطيب الدمث السياسي، ولكن أليس مفيداً إن عرفنا أن هذا التصوير له مرجعه القبلي في فكر شركة الإنتاج؟ فقطري بن الفجاءة تميمي، وبمعنى آخر فهو من بلاد قطر اليوم، والمهلب من أرض عُمان والإمارات، إذاً من السهل أن نعرف أن هذا الإسقاط ليس بريئاً وإنما يوظف في حصار الخليجيين لقطر، وهذا ما يدفع للبحث والتدقيق في القصة بأسرها.
يستطيع الكاتب أن يخترع بعض الحكايات الدرامية في التاريخ أما ما فعله كاتب هذا العمل فقد وصل حد الخروج عن العقل، فهل من المعقول إلصاق تهمة الخلط بين الحقيقة والخيال على شخصية المهلب للضحك على عقول المشاهدين، ليكشفها له في الحلقات الأخيرة، هذا ما يمكن الاستسهال به إذا ما قورن بالتشويه الذي لحق بشخصية قطري بن الفجاءة وندمه وهو جزء من الخوارج وهو ما لم يسجله التاريخ ولا شعر ابن الفجاءة ولا سجل عن أي خارجي آخر فكيف بسيد الخوارج؟ وهل من المعقول استمرار هذه اللقاءات بين المهلب وقطري على حين أن قوميهما يتحاربان وهما سيدا القومين؟ لقد جهد الممثل معتصم النهار بأداء هذا العمل كما شاركه الأردني منذر رياحنة هذا الجهد، لكن الإخراج بهذه الكوادر الضيقة وهذا الابتذال للمعارك جعل العمل غير جذاب لمشاهد في هذه الأيام، على حين يظهر الاستناد إلى فكرة العبث بالتاريخ لأن المشاهدين لا يقرؤون بشكل معيب، لنكتشف أننا أمام كاتب أخفق في توليفته التاريخية وهو الذي اعتاد كتابة مسلسلات السيرة التاريخية، وكأن المخرج قد فُرِضت عليه الشخصيات والممثلون، هل من سوء أكثر من أداء الممثلة (لمى ناصر) في دور خيرة زوج المهلب، وهي تأخذ دوراً رئيسياً في العمل، وكما يسجل أن الدور الذي أدته الممثلة ديمة قندلفت هو من أسوأ ما قدمته في تاريخها الفني وهي النجمة في مهنتها دوماً، على حين كان بعض الممثلين على صغر أدوارهم مقنعين ولافتين ومتمكنين مما يقومون به منهم: روبين عيسى في تخطي عمرها الصغير وهي تأخذ دور كهلة، ربى الحلبي التي استخدمت طاقتها الصوتية وقدرتها التمثيلية في دور عناق الجارية، ومروان أبو شاهين في دور مصعب بن الزبير، وإبراهيم عيسى في مشاهد قليلة لكنها لافتة في دور البشر بن مروان بن الحكم، ولين غرة في دور ميمونة الحبيبة الافتراضية للمهلب، أما مشكلة ال التعريف التي تلفظ قمريةً وهي تسبق حرف الجيم فبات الحديث عنها متعباً في الأعمال التاريخية وكأن المخرج لا يلتفت إلى هذا الخطأ ولا يبحث عن مدققين لغويين ينصحون الممثلين في اللفظ والتشكيل، والعتب الأكبر على الممثل خالد القيش.
ويصل إلى الممثلين الجدد بعضهم وليس كلهم، وكيف ينتبه المخرج إلى هذا وهو الذي تناسى صورة المهلب الذي يكبر أو يصغر في السن فيشيب شعره أو يعود طبيعياً بين مشهد وآخر.. يبقى السؤال هل هذا استسهال توظيف المال من أجل فبركة تاريخ يسهم في صناعة وهم التاريخ لتعيشه الشعوب؟! على حين أن شارة المسلسل تقول (يضحك التاريخ منا.. كلما عدنا إليه) التاريخ يضحك عليكم يا صناع هذا العمل كما الحاضر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن