ثقافة وفن

نبع عطــاء

| د. اسكندر لوقا

يصعب عليّ كما قد يصعب على آخرين، تقدير مشاعر الموظف المحال على التقاعد بحكم القانون، وتحديدا عندما يكون شاغلاً لمنصب مسؤول عن إدارة العمل في دائرة حكومية، وإذا به صباحا خارج هذه المسؤولية بغمضة عين.
قد يستمتع البعض من المتقاعدين بهذه النقلة النوعية في حياتهم، فينكبون على مطالعة ما فاتهم من مؤلفات لضيق الوقت وثقل المسؤولية على أكتافهم. وربما أتاحت لهم هذه النقلة أن يتعرفوا على جغرافية وطنهم، أو يستثمروا الوقت المتاح لهم استثنائيا للقيام بزيارة بلد آخر، وغير ذلك من حالات يحاول المتقاعد أن يجد لنفسه مخرجا يخفف عنه شعوره بالملل وربما بالضيق الذي يعرضه أحياناً للتوتر والقلق وضيق النفس وما شابه ذلك من حالات تصاحب أحد المتقاعدين على مدار الساعة.
راودتني هذه الأفكار وأنا أستمع إلى صديق خلال جلسة عائلية يحكي قصة أحد معارفه من المتقاعدين لا ينفك يستقبل كل من يطرق باب منزله طالباً مساعدته في تصريف شأن يخصه، ولا يملك إلا أن يسعى إلى تلبية طلبه كأنه لا يزال مسؤولاً ومن ثم غير عابئ بصفته الراهنة بعد إحالته على التقاعد.
ويروي الصديق أن هذا الرجل لا يبرح مكتبه في منزله، حيث يتلقى هاتفاً من هذا وذاك ممن عرفوه في منصبه، وهو دائم الاستعداد لاستقبال من يطرق باب منزله كأن شيئاً لم يكن. إن رجلاً متقاعداً كهذا هو في رأيي استثناء بين من يملك الاسم ومن يملك الصفة، بين من يقدر أن يحافظ على الإنسان في ذاته، بغض الطرف عن المكان الذي يشغله أو كان يشغله وبين إنسان لا يمكن أن يعيش خارج المنصب، إنها صفة الإنسان الذي لم يفقد حماسته ليكون يدا تعطي ولا تأخذ، إنها صفة المقاعد الذي يتخطى دائرة المنصب الذي كان يشغله قبل إحالته على التقاعد، إنها صفة من يؤمن بأن المنصب يزول على حين يبقى هو قادراً على العطاء أينما وجد وفي أي وقت كان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن