ثقافة وفن

ويبقى السوريون أصحاب هذه الأرض الطاهرة وعشاقها … نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال

| المهندس علي المبيض

لابد في البداية من أن نؤكد أن المقالات التي نقوم بنشرها أسبوعياً إنما نتوخى من خلالها أن نؤكد النقاط التالية:
– أهمية التاريخ السوري كأحد أهم روافع الفن والفكر والثقافة والاقتصاد والتنمية المجتمعية.
– الإشارة إلى المكتشفات المهمة التي أسهمت الحضارة السورية بتقديمها للبشرية وكان لها أثر واضح في تطور العلوم والفنون والثقافة في أرجاء العالم.
– تأكيد وحدة السكان والجغرافيا والحضارة والتراث الثقافي السوري منذ فجر التاريخ الذي سيصل بنا حتماً للوقوف على عظمة سورية وأصالة الإنسان السوري وتجذره بأرضه وسعيه الدائم للمساهمة في منظومة الحضارات الإنسانية بمفهومها الواسع والمطلق والتواصل الحضاري مع الآخرين بغية نشر علومه وفنونه وثقافته.

قد أثبتت الاكتشافات الأثرية نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى: أن بلاد الشام هي من أقدم مناطق العالم المأهولة وإن الحضارات التي تعاقبت عليها اتصفت بأنها مترابطة على امتداد كامل جغرافيتها وهي متكاملة فيما بينها، وكل حضارة قامت فوق هذه الأرض الطاهرة قد استوعبت ثقافة وفنون وعلوم الحضارات التي سبقتها ولم تأت على إلغائها.
النقطة الثانية: أن هذه المنطقة تحمل بعداً اقتصادياً إقليمياً ودولياً واسعاً إذ إن موقعها الإستراتيجي بين القارات الثلاث يحقق لها وعلى الدوام أهمية عالميةً بالغةً وكانت هذه الأهمية تعطيها ومنذ القدم أوراقاً عديدةً ومتنوعةً تجعلها قوةً اقتصاديةً وعسكريةً مهمة وتوفر لها أسباب الازدهار الاقتصادي والمعرفي والحضاري عبر جميع المراحل والحقب التاريخية التي مرت بها.
والسوريون تكلموا لغةً واحدةً لكن بلهجات متعددة فقد أثبتت التحقيقات اللغوية للمحفوظات الأثرية المكتشفة أن السورية أو السريانية هي لغة جميع سكان المنطقة الممتدة من البحر الأسود إلى بحر العرب ومن وادي السند شرقاً إلى جزيرة قبرص واليونان وكريت غرباً، وأن ما أطلق عليها بالأكادية والبابلية والآشورية ليست إلا تسميات من المؤرخين المحدثين أنفسهم تبعاً لانتقال عاصمة الدولة من «أكاد» إلى «بابل» إلى «آشور».
إن سورية وبحكم موقعها الجغرافي المتميز والمهم هي بلاد مرور واحتكاك تجتازها وتتقاطع فيها الطرق الطبيعية التي تصل مناطق وبلدان شرق آسيا بالبحر الأبيض المتوسط وتربط الشمال مع الجنوب باتجاه الجزيرة العربية وإفريقيا، وقد قامت فيها سابقاً ممالك وامبراطوريات عظمية قدمت للعالم سلسلةً من الاكتشافات والاختراعات المهمة التي ساهمت بازدهار البشرية وتقدم العلوم والفنون في كل مناحي الحياة، ونعم بخيراتها العديد من الأمم التي استوطنتها منها على سبيل المثال لا الحصر السومريون والأكاديون والأموريون والبابليون والآراميون والحثيون والآشوريون والفرس واليونانيون والرومان والعرب.
ونحن عندما نستعرض الحضارات والممالك التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة ونبين أمجاد هذه الأمة فإننا نحاول من وراء ذلك أن نستنهض الهمم لكي نعيد للتاريخ المشرق سيرته وفي شتى المجالات الثقافية والعلمية والحرف التقليدية والزراعة وفنون العمارة التي مازالت آثارها شاهدةً عليها لغاية اليوم تدلل على شموخ وعظمة هذه الأمة، وهي محاولة متواضعة لكي نؤكد من خلالها أن أبناء سورية اليوم هم أحفاد هؤلاء العظماء الذي أسهموا بشكل كبير في بناء الحضارة الإنسانية برمتها وكتابة أمجاد التاريخ السوري الحافل.
واليوم يجد السوريون في تاريخهم المجيد ينابيع مختلفة لثقافة ثرية متنوعة يمكن أن تشكل عاملاً موحداً وأرضيةً مشتركةً لبناء الحاضر واستشراف المستقبل وهي تساهم بشكل كبير في تقريب وجهات النظر وجعل التواصل في حضارتنا نهجاً ثقافياً يفيض على الكون ثقافةً وعلماً وفناً.
أبناء سورية الأوائل هم من بنوا تدمر وأوغاريت وماري وإيبلا وأفاميا وعمريت ودورا أوروبوس والممالك الآرامية العديدة ومعلولا تلك المدينة الساحرة التي مازال قسم من أهلها يتكلمون لغة السيد المسيح المقدسة.
أبناء سورية الأوائل هم من بنوا القلاع والحصون ليصدوا هجمات الطامعين بنهب خيرات وثروات هذه الأرض الطاهرة.
أبناء سورية الأوائل هم أحفاد زنوبيا وجوليا دومنا.
أبناء سورية الأوائل هم أحفاد الإمبراطور الروماني فيليب العربي أحد أبرز الأباطرة السوريين الذين حكموا الإمبراطورية الرومانية التي كانت تحكم نصف العالم.
أبناء سورية الأوائل هم أحفاد المعماري الدمشقي أبولودور الذي قام بإنجاز العديد من الأوابد المعمارية المهمة في روما التي مازال بعض منها شاهداً على عظمة السوريين في العمارة والثقافة والفن.
سورية موئل الحضارات ومهد الديانات السماوية وأرضها هي الأغنى حضارياً وهي تعتبر متحفاً تاريخياً طبيعياً لحضارات تعاقبت على أرضها منذ أكثر من عشرة آلاف عام.

أول أبجدية في التاريخ
قدمت سورية أعظم إرث للعالم، وهي الأبجدية التي طورها الفينيقيون خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، وتأثر بها بشكل كبير الآراميون والإغريق، وتعود معظم أو جميع النصوص الأبجدية المستخدمة في جميع أنحاء العالم القديم إلى تلك الأبجدية.
حيث قدم أبناء أوغاريت أول أبجدية في العالم، وهي تتلخص بجعل لكل صوت ساكن إشارة خاصة فيه يدعى الحرف، وتتكون أبجدية أوغاريت من ثلاثين حرفاً تكتب من اليسار إلى اليمين تم العثور عليها محفورة على ألواح طينية تجفف تحت أشعة الشمس أو تشوى في أفران مرتفعة الحرارة على رقيم فخاري طوله 5.5 سم وعرضه 1.3 سم.
وتعتبر أبجدية أوغاريت بحق واحدةً من أعظم الاختراعات التي عرفتها البشرية، إذ إنه لا أحد ينكر أهمية اللغة في التعبير ونشر الثقافات والفنون وهي أقدم أبجدية في التاريخ، ولم يكن اختراع الأبجدية في أوغاريت من قبيل المصادفة بل كانت البيئة الثقافية والعلمية التي كانت سائدة في أوغاريت مهيأة لذلك تماماً، فقد كان يلتقي فيها الكثير من التجار من مختلف أنحاء العالم حاملين معهم علوماً وثقافات متنوعة، حيث استوعب أبناء مملكة أوغاريت بعقليتهم المنفتحة على الحضارات الأخرى هذه العلوم وأضافوا إليها من علومهم وثقافاتهم وخبراتهم المتراكمة التي هي نتاج الحضارات العديدة المتعاقبة التي مرت على هذه المنطقة.

أول نوتة موسيقية
في أوغاريت أيضاً عثر على أقدم نوتة موسيقية معروفة في العالم مدونة على رقيم من الطين، يعود تاريخه إلى عام 1400 قبل الميلاد، يحتوي على أربعة أبيات مكتوبة باللغة الحورية، وهذه النوتة هي السلم الموسيقي لنشيد موجه إلى الآلهة نيكال، حسب الاعتقاد السائد في تلك الفترة.

أقدم معاهدة سلام
في موقع إيبلا بالقرب من قرية سراقب عثر على أقدم معاهدة سلام جرت بين مملكة إيبلا ومدينة أرباسال الواقعة في منطقة الجزيرة السورية وكتبت هذه المعاهدة بالخط المسماري وباللغة الإبلائية.

أول رواية بالخيال العلمي
يعتقد أن أول رواية كتبت في إطار الخيال العلمي بعيداً عن الملاحم الشعرية القديمة تعود للمؤلف السوري لوقيانوس وهي رواية من القرن الثاني تتحدث عن مسافر قام بالانتقال عن طريق خرطوم الماء إلى القمر، حيث يصادف مجتمعات غريبة وأشكال حياة غريبة، ويتحدث أيضاً عن الحرب بين الكواكب واتصال سكان الأرض بالكواكب الأخرى.

أول قالب صب للسبائك البرونزية
عثر في منطقة ابن هاني التي تقع في مدينة اللاذقية على قالب حجري كان يستخدم لصب السبائك المعدنية وكانت السفن تنقل هذه السبائك في البحر الأبيض المتوسط، وتباع في الموانئ والمراكز التجارية المنتشرة على سواحل البلدان المطلة على البحر وكان هذا الحجر على شكل بلاطة حجرية ضخمة مثبتة في الأرض، حفر على سطحها شكل صنع السبيكة.

أول حفر لوجه إنسان
عثر في منطقة تل الجرف الأحمر بالقرب من حلب على أقدم حفر لوجه إنسان على حجر، يعود تاريخه إلى عام 9000 قبل الميلاد ينسب إلى العصر الحجري الحديث.

أقدم وعاء
تطورت الزراعة في مناطق الهلال الخصيب منذ نحو 10 آلاف عام قبل الميلاد وظهرت عدة أدوات بدائية وأوعية تستخدم في الأعمال الزراعية كانت تصنع من الحجر، حيث عثر على أقدم وعاء في منطقة تل الجرف الأحمر قرب حلب يعود تاريخ صنعه إلى نحو 9000 عام قبل الميلاد مصنوع من حجر أبعاده 12 سم x 9 سم.

السفن الفينيقية
الفينيقيون كانوا سادة التجارة البحرية، فمن أوغاريت أبحرَت السفن ناشرة الحضارة وحاملة معها العلوم والفنون إلى أرجاء العالم كافة.
ويعتبر الفينيقيون أول من برع في صناعة السفن التي كانت تستخدم في تنقلاتهم وتجارتهم، ويرجع تاريخ بناء تلك السفن تقريباً إلى عامي 1200 إلى800 قبل الميلاد، وكانت تتميز بوجود رأس حصان على مقدمة السفينة، يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت: إن الفينيقيين قاموا بأول رحلة بحرية حول إفريقيا في عام 600 قبل الميلاد.
طحن القمح

من المعروف أن القمح هو من أهم المزروعات في العصور القديمة والحديثة، وكان يستخدم الإنسان منذ القدم أدوات عديدة لطحن القمح، حيث عثر في موقع أبو هريرة في الرقة على جرن مصنوع من حجر البازلت، وهذا الجرن كان يستعمل في طحن القمح ويقدر أن تاريخه يعود إلى عام 7000 قبل الميلاد.

صناعة الزجاج
إن تاريخ صناعة الزجاج غير معروف على وجه التحديد، ويرى المؤرخ اليوناني القديم بليني أن الفينيقيين هم أول من صنع الزجاج الحقيقي ويعود تاريخه إلى نحو 5000 عام قبل الميلاد، لكن وفقاً للأدلة الأثرية فإن أول رجل صنع الزجاج كان في بلاد ما بين الرافدين ومصر قبل 3500 عام قبل الميلاد.

الشفرات والأدوات الحادة
في أوائل العصر البرونزي أي قبل نحو 5300 إلى 3100 سنة كانت الشفرات والأدوات الحادة تصنع من حجر الصوان والزجاج البركاني الأسود، وبقيت تلك الأدوات مهمة لسكان تلك الحقبة على الرغم من ظهور الأدوات المعدنية.
عثر في تل موزان الواقع على الحدود التركية والعراقية على العديد من الأدوات المصنوعة من الزجاج البركاني، ويعتقد علماء الآثار أن منشأ تلك الأدوات الحادة التي كانت تستخدم في سورية منذ ما يقارب 4200 عام هو من البراكين التي تبعد نحو 200 كيلو متر جنوب شرق تركيا.
وإننا حين نستعرض إنجازات السوريين الأوائل فإننا نحاول أن نستلهم من ذلك التحفيز على الإبداع في حاضرنا والذي يعطينا الثقة التي تمكننا من الانطلاق نحو المستقبل، فالأمة التي لا تعرف ماضيها لا ذاكرة لها ومن فقد ذاكرته يسر هائماً على وجهه متخبطاً في خطواته.
ونؤكد من خلال ذلك أن الإنسان السوري الذي ساهم منذ القدم في كتابة أمجاد هذا التاريخ المشرف، وشارك في بناء الحضارات المتعاقبة جدير بأحفاده اليوم إعادة بناء ما تهدم ورأب ما تصدع والمشاركة بفعالية في المنظومة الحضارية والمحافظة على مخرجات تلك الحضارات التي يحاول أعداؤنا بشتى الطرق والأساليب تدميرها أو تزويرها أو تشويهها… والتي تشهد على عظمة هذا التاريخ الحافل الذي يمتد لأكثر من مليون عام.
ونبقى نحن أصحاب هذه الأرض الطاهرة وعشاقها.
نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال..
جيلاً بعد جيل.
سورية الراسخة..
سورية الشامخة..
ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت طوال عمرها المديد كل الأزمات التي مرت بها.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن