اقتصاد

كل شبرٍ بـ«شعرٍ»!

| علي محمود هاشم

لطالما فضلت الحكومة «البحر الطويل» في «قصيدة المعيشة»: جلسات مستفيضة.. توقعات تقريبية.. عصف فكري متكئ إلى كوعه الأيمن.. «استخارات» تفاضلية بين سيئ وأسوأ.. هكذا، تتشارك القصائد ركاكتها وخلوها من المخيلة عادة، هذا ما يحصل عليه الشاعر حين يبدأ نظم «معلقته» متقولاً فيها بما لا يشعر.
عسى أن تسمع الحكومة يوماً «لطمية المستهلكين» ذات «البحر المقتضب»، لربما تصاب حينها بالذهول من ترتيب فلسفات الاقتصاد والنقد في أولوياتهم: في المرتبة الألف يأتي النقد ومشتقاته، وما يريدونه في المقدمة هو تقليص مخاوفهم المعيشية المتعمقة على حين تدني الدخول يحفر يومياً في جدار احتياجاتهم الأساسية ويراكم نفاياته على حساب أولوياتهم المؤجلة.
على مر الأيام، تحولت كل مهمة مهما صغر شأنها، إلى مناسبة حكومية لإلقاء الشعر وإتحاف الجمهور بإنجازاتها المنظومة بين شطري قصيدة ملخصها «اجتياح النهوض الكبير لمختلف مفاصل حياتنا الاقتصادية.
هذا بعض من السمات الرئيسة لأوركسترانا الشعرية التي صقلت ملكتها يوماً بعد يوم، أما المواطنون، ومن ذوي الدخل المحدود على وجه الخصوص، فيتناثرون على شواطئ البحور الـ16 ليس لأنهم لا يتقنون السباحة، بل لأنهم فقدوا متعة تذوق الشعر في مساءاتهم المزدحمة بالشقاء.
في الإنتاج، تواظب الحكومة على قرض قافية «افتخاريتها» الركيكة من البحر الخفيف، ورغم ما اكتنف ويكتنف هذا القطاع من أرقام صادمة، فهي لا تزال تصر على دفق نجاحاتها في سياق ملحمي، في قصائدها الأولى، دبّجت «رباعيات» تعافي الإنتاجين الزراعي والصناعي، قبل أن تنكسر قوافيها على بياناتها.
في القطاع الصناعي، وخلف «رباعيتها» عن تشجيع التصدير وعن صادراتنا المحققة إلى نحو 105 أسواق «وفي قصيدة أخرى أزيد قليلاً»، فوفق ميزان صادراتنا «شبه المعلن»، يخيل للمرء بأن كل من تلك الأسواق قد استوردت «تنكة زيت» أو «بكلة شعر» أو «أوقية كمون»، لا أكثر!.
السلع الزراعية التي ما فتئ بعضها يتقهقر في بياناته إلى ما قبل نصف قرن، يحار المرء في نجاحاته، وبما أن الأسعار لم تنخفض بدفع من الوفرة في الأسواق المحلية، ولم تتبدل بيانات ميزاننا التجاري، فأين تختبئ تلك السلع إذاً؟!.
عن الصنف الزراعي، تتبرعم تنويعات أخرى، ففي يوم ما قرضت الحكومة قصائد «البقرات» المستوردة التي ستلتهم غلاء المنتجات الحيوانية، وفي النتيجة، أكلت البقرات العشب قبل أن تنقطع أخبارها، تلاها موسم «السمكات» وإصبعياتها وموسم «نزرع كل شبر» و«الزراعات المنزلية».. على هذا المنوال، ما زلنا نزرع «الأشبار» منذ عامين، ومع كل «شبر» نحظى بقصيدة جديدة مجانا، دونما أدنى تغيير في أسعار المستهلكين؟!.
«القصيدة المسرحية» التي نظمها المصرف المركزي مؤخراً، لم تشذ عن قواعدها الحكومية، سماتها الموضوعيّة ووحدتها العضويّة بائنة في ترتيب مسوغاتها، ورغم محاولة شرح مفرداتها لاحقاً، فلا أحد أخطأ في تلقف خلاصتها الواضحة: تستطيع الحكومة خفض الآلام المعيشية إلى النصف بعد ضغط التضخم المصطنع بنسبة موازية.. لكنها لن تفعل!.
خذلتنا هذه القصيدة بالفعل، فما سبقها، كان ليمكن المحاججة فيه على خلفية الحرب، أما «منع تجار الأزمات من التمتع بمضاعفة ثرواتهم» عبر الاستمرار في خنق محدودي الدخل!، فهذا ما لا تطيق الآذان الاستماع إليه.. عند هذا الشطر، فقد «حاكم المركزي» سليقته الشعرية، ومعها حكمته و«حصافته» أيضاً، بعدما زعم القدرة على إمساك سعر توازني لصرف الليرة عند أقل من نصف حاله اليوم.. هذا الأمر يكشف نية مبيتة بالحفاظ على السعر المضاعف الأعلى قسرا لـ«ضرورة الشعر»، على حين الأسواق تواقة إلى السيولة.
لا يزال افتراق «البحور» حائلاً بين الحكومة والمواطن.. بحور الحكومة طويلة ومعقدة وتقدس السير على البيض.. أما بحار المواطن فشديدة الضيق، وأغراضها الشعرية لا تتسع لـ«الغزل».. لربما فقط تستطيع الهجاء والرثاء.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن