قضايا وآراء

إلغاء حق العودة قرصنة دولية

| د. يوسف جاد الحق

يبدو واضحاً الآن أن الإدارة الأميركية التي جيء بها إلى البيت الأبيض هي الإدارة الصهيونية اليهودية العالمية ذاتها، وليس رئيسها دونالد ترامب وأعوانه جون بولتون ومارك بومبيو وجو ماتيس، سوى أدوات طيّعة، في أيدي من ذكرنا من الصهاينة، الذين يمثلهم في فلسطيننا المحتلة بنيامين نتنياهو وأعوانه أمثال أفيغدور ليبرمان النادل السابق في ملاهي ليتوانيا.
التناغم والتماهي يبلغ حدَّ التطابق في الرؤية والممارسة بين من هم هناك في واشنطن ومن هم هنا في تل أبيب. صحيح أن الإدارات الأميركية السابقة لم تقصر بدورها في دعم إسرائيل وتأييدها على كل صعيد، بما في ذلك ممارساتها الإجرامية في حق شعبنا، إلا أنه كانت هنالك حدود وخطوط تفصل ما بين الإدارتين على نحو أو آخر، بحيث لا تضيع المعالم المحددة أمام المجتمع الدولي ـ لهذا الجانب كدولة عن ذاك كدولة..!
ترى ما الذي يعرفه ترامب عن الـ«أونروا» لكي يتنطع لمواجهتها ومهاجمتها والتنديد بها، والعمل على إلغائها تحقيقاً لهدف إسرائيلي محض، لولا أن أفّاقاً مثل نتنياهو وجَّهه إلى هذا الموقف المزري في انحيازه. غير أن الغريب في الأمر هو أن المسوغات التي يسوقونها ويسوِّقونها من أعجب ما عرفه البشر من الجرأة على الكذب المكشوف، والمنطق الأخرق المتناقض إزاء الموضوع الواحد في اللحظة ذاتها.
يفسر نتنياهو مفهوم اللجوء على أنه يعني من ولد في فلسطين وغادرها عام 1948، أما الأبناء والأحفاد الذين ولدوا خارجها لا ينطبق عليهم مفهوم اللجوء، ومن ثم لا يحق لهم المطالبة بعودة إلى فلسطين..! هل سأل أحد الفيلسوف نتنياهو كيف إذن يحق لشخص، لمجرد كونه يهودياً، في أي مكان في الأرض، يحمل أي جنسية لم يعرف فلسطين ولم يولد هو ولا عشرة أجداد له أو عشرين قبل ألفي سنة يزعمون أن اليهود كانوا فيها بفلسطين، يحق له «العودة» إليها، تحت عنوان معروف عندهم هو «العائدون الجدد»! ليقيم في فلسطين ويحمل صفة المواطنة، وجنسية المغتصب الإسرائيلي بقية حياته، ومن ثم حياة أبنائه وأحفاده إلى ما شاء الله؟!
هذا المنطق الفظ المغالط المستهتر بالعقول والمفضوح، يسمعه العالم، ولكنه للأسف لا يحرك ساكناً، ولو على صعيد الحوار أو النقاش الديالكتيكي المنطقي، على الأقل، ولا نطالبه بأن يعلن الحرب على قائله!
حالة الفلسطيني هذه فريدة في نوعها على مدى التاريخ البشري كله، لم يحدث قط أن منع كائن بشري من العودة إلى موطنه بموجب تشريعات باطلة تفرضها قوة غاشمة، ويصمت عالم النفاق، أو عالم الخنوع، أو عالم المتاجرة بالشعوب، ما دام الجاني إسرائيلياً والمجني عليه عربياً فلسطينياً!
في زيارته السعيدة الأخيرة إلى الكيان نفسه، أطل جون بولتون بوجهه البغيض، على الشاشات الفضائية عندهم، وإلى جانبه، صاحب الأمر والنهي عليه، نتنياهو ليملي عليه أقواله وتصريحاته وتأميناته، أي قوله آمين، لكل كلمة ينطقها.
لقد بدا الاثنان وكأنهما يملكان زمام الأمور في الشأن العالمي برمته، فـ«أونروا» سيئة، ومنحازة للفلسطينيين، ملفقة، تغالط في أعداد اللاجئين، تقول إنهم خمسة ملايين وهم ليسوا أكثر من خمسمئة ألف! ويستخلص الرجلان من هذا كله فرماناً بأن لا حق لأبناء الخمسمئة ألف هؤلاء في العودة إلى فلسطين، ويغادر بولتون قدسنا مزهواً بالإنجاز الذي سخَّر له عمره، خدمة لبني قومه الصهاينة.
لم يقصر ترامب كذلك في دعمه لحليفه وصفيِّه نتنياهو بل إنه زايد عليه فذهب إلى إلغاء حصة أميركا في تمويل «أونروا» وإلى إنكار حق العودة لأبناء اللاجئين الفلسطينيين، لأن صفة اللجوء لا تنطبق عليهم حسب منطقهم، منكراً، السيد ترامب، قرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن وفي مقدمتها القرار 194 الصادر عام 1948 الذي نص على حق عودة الفلسطينيين إلى فلسطين. ليضيف إلى بني صهيون مكرمة جديدة، بعد مكرمته في نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتبرعه بإعلانها عاصمة إسرائيل الأبدية، لكأن القدس كانت ملكاً للسيد ترامب ولأجداده الأولين من قبل!
ولكي يدلل الرجل على ولائه المطلق لرفاقه الصهاينة، وللمهمة التي جيء به من أجلها إلى البيت الأبيض ووفائه للحرب التي يشنها على كل ما هو فلسطيني، في هوس غريب واستهتار عجيب يلغي في السادس من الشهر الجاري مبلغ خمسة وعشرين مليون دولار معونة أميركية سابقة للمستشفيات الفلسطينية، حتى المستشفيات لم تسلم من لا إنسانية دعاة حقوق الإنسان الكذبة!
هو مبلغ زهيد في الحسابات الأميركية لا يكاد يستحق الذكر، لكن دلالته ورمزيته كبيرة، والمستر ترامب لا يريد أن يدع فرصة مهما صغر أو كبر شأنها تفوته لكي يضمن بقاءه حيث هو، وربما يحلم في رئاسة ثانية يوفرونها له مستقبلاً.
نقول لزمرة الأفّاقين هؤلاء، الذين يتصرفون على هواهم فيما لا يملكون، على حساب شعبنا الفلسطيني وشرفاء أمتنا العربية، من دون أن يأخذوا في حساباتهم عواقب أفاعيلهم المنكرة: إن الفلسطينيين، وإخوة لهم في المواجهة، قادمون، وفي يوم أقرب مما يتصورون. يومئذ لن يظهر ترامب أو بولتون أو ليبرمان على فضائياتهم بغطرساتهم المعهودة، ذلك أن كيانهم نفسه لن يكون له وجود.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن