ثقافة وفن

القلاع والحصون السورية … شاهدة على صمود وشموخ السوريين

| المهندس علي المبيض

لاشك بأن التاريخ هو من أخطر العلوم الإنسانية شأناً فهو العلم الشامل والواسع والوحيد الذي يعبر عن نشاط الشعوب المادي والروحي، ومن خلال هذا التاريخ تتحدد الملامح القومية والسياسية والحضارية لأفراد الأمة جيلاً بعد جيل.
إن أي أمة تعي حقيقة وجودها وتنظر بالعين الأولى لحاضرها وبالعين الأخرى إلى مستقبلها يجب أن تحرص على أن تكتب تاريخها بأيدي أبنائها، ونؤكد أنه من واجبنا جميعاً مؤسسات رسمية وأفراد أن نحرص على تقديم تاريخنا ونشره بالشكل الصحيح لأن أي تشويه لهذا التاريخ سواء كان ذلك بشكل عفوي أو غير ذلك إنما يصب في تشويه السوريين وشخصية كل فرد منا، لذلك وكما ذكرنا سابقاً فإن جميع الدول المتقدمة تنظر إلى تاريخها نظرتها إلى أمنها، ولا نذيع سراً إذا قلنا إن الدول الاستعمارية قد جندت إمكانيات كبيرة جداً لإحداث مؤسسات بحثية تقوم بإعداد دراسات وأبحاث تهدف إلى بتر الماضي عن الحاضر ومن هنا تكمن أهمية أن يكتب السوريون تاريخهم بأيديهم.

ونحن حين نتحدث عن الحضارة السورية وما قدمته للبشرية من اكتشافات وإنجازات لابد أن نتحدث أولاً ومطولاً عن الأبجدية التي ابتكرها السوريون الأوائل وقدموها للعالم إلا وهي الأبجدية التي تم اكتشافها في مملكة أوغاريت وهي الأولى في التاريخ وكما ذكرنا في المقال السابق بأنها عبارة عن ثلاثين شكلاً تمثل حروفاً أبجديةً وهي تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد وهذا يعني أن السوري أول من عرف الكتابة.
إن تاريخ سورية ودون أي مبالغة هو تاريخ التمدن لكل دول العالم فكما ذكرنا سابقاً فقد أثبتت المكتشفات واللقى الأثرية أن السوري أول من عرف الزراعة وأول من استخدم المحراث الزراعي وأول من طحن القمح وأول من صنع الفخار وأول من اكتشف كروية الأرض فدرس بناءً على ذلك ظاهرة الخسوف والكسوف والتنبؤ بها ووضع المواقيت والتقاويم لأول مرة وتنظيم دوائر الأبراج، وأول من عرف المعجم اللغوي الذي اكتشف في مملكة إيبلا وأول من ألف نوتة موسيقية ونظم أول معاهدة سلام وكتب أول رواية بالخيال العلمي وصنع أول قالب صب للسبائك البرونزية وأقدم وعاء كما أن بدايات صناعة الزجاج كانت من بلادنا ومن اوغاريت ابحرت السفن ناشرة الحضارة وحاملة معها العلوم والفنون إلى كل أنحاء العالم.
وكما هو معلوم للجميع فإن سورية تزخر بالعديد من المواقع الأثرية المتنوعة كالمدن القديمة، القلاع، الأوابد التاريخية…. ، وتعتبر سورية متحفاً طبيعياً للتراث الثقافي من أقصاها إلى أقصاها، وتعد من الدول القليلة التي تتميز بغنى موروثها الثقافي فتحت كل حجر في سورية يوجد إثر وتحت كل شبر من أرض بلادي يوجد كنز، هذا الموروث الذي يمثل إرثاً إنسانياً عظيماً يعكس نتاج الحضارات المتعددة والمتنوعة التي تعاقبت عليها، سواءً تعلق الأمر بالعمارة القديمة أم بعمارة الحقب التاريخية المتلاحقة والمختلفة.
وتزداد أهمية هذا الموروث الثقافي لأنه يعتبر أحد المكونات الرئيسية للهوية الثقافية والحضارية للسوريين، ويشكل جزءاً رئيسياً من المخزون والذاكرة الجمعية للأمة، إضافة لما ذكرناه في أكثر من موقع ضمن المقالات السابقة فقد كانت سورية مهداً للديانات السماوية وموئلاً للحضارات القديمة العديدة، حضارات ولدت عليها أو مرت واستقرت على أرضها ثم ذابت ضمن النسيج الحضاري الفريد الذي تميزت به سورية، وقد تركت هذه الحضارات وراءها آثاراً عظيمةً تشكل حالياً كنزاً يمنح سورية عوامل قوة ونقاط جذب اقتصادية واستثمارية مهمة جداً، ومن هنا يجب أن ندرك أهمية المحافظة عليه والاستفادة منه واستثماره بالطريقة المثلى وفي جميع المجالات تنموياً، اقتصادياً، مجتمعياً، ثقافياً،… بالاستفادة من تجارب الدول التي لها خبرة جيدة في هذا المجال.
ويحدثنا التاريخ السوري قصصاً عديدة عن بناء القلاع والحصون تجعلنا نقف أمامها في حالة من الدهشة والاستغراب والتقدير لجهود الذين قاموا ببنائها، حيث تعتبر القلاع والحصون من أهم الشواهد على الحقب التاريخية المختلفة وعلى الحضارات والشعوب التي عاشت تلك الحقب، وتعد أيضاً أكثر الآثار جذباً للباحثين في التاريخ والراغبين بالاستفادة والتمتع بثقافة الشعوب.
وتشتهر سورية بالقلاع القديمة وتعتبر من أبرز المعالم التاريخية التي شيدت منذ مئات السنين ومازالت تطل شامخة تحرس السهول والوديان والمدن وكل الأراضي السورية، وهي شواهد حية على عظمة فن العمارة ومراحل تطوره من ناحية وعلى إصرار السوريين ومنذ القدم على حماية بلادهم والدفاع عنها واتباع كل الطرق والوسائل لصد العدوان من ناحية أخرى، وكل منها يشهد ماض يدعو للفخر ولكل منها قصته الخاصة التي يرويها، وبعض هذه القلاع مازالت تحافظ على شكلها على الرغم من مرور مئات السنين على تشييدها مثل قلعة أرواد وقلعة دمشق وقلعة الحصن وغيرها… وهي نتاج تراكمي لسنين طويلة من المعارف الإنسانية الذي يزخر بها التاريخ السوري الحافل.
كانت القلاع والحصون تقوم بدورين رئيسيين: المسكن والحصن، وهي تمثل قوة الدولة وهيبتها وتلعب هذه المباني التاريخية الضخمة بالإضافة لوظيفتها الأساسية والمتمثلة بالحماية والدفاع والحراسة دوراً حيوياً بارزاً لأنها تشكل نقاط التقاء للتفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني والعسكري وإدارة شؤون الدولة وكمراكز للعلم والأنشطة الاجتماعية، وتضم سكن الحاكم ومقراً للحكم وبيوتاً للحرس وغالباً ما تكون هذه القلاع متكاملة مع أسواق تضج بالحيوية والنشاط ومساجد وأحياء حرفية وسكنية ومخازن للذخيرة والعتاد الحربي ومستودعات للمواد الغذائية واحتياجات الحياة ومتطلباتها.
وقد كانت معظم القلاع منيعة، حيث إن المهاجمين قد يحاصرون أي حصن مدة شهر أو أكثر دون جدوى وذلك لحصانته المنيعة حيث يعد اقتحامه أمراً عسيراً، ولا يمكن أن يتم الانتصار في معركة اقتحام أي مدينة مالم تتم السيطرة على تلك الحصون.
ومن أهم القلاع في سورية: قلعة دمشق، قلعة حلب، قلعة الحصن، قلعة المرقب، قلعة سمعان العمودي، قلعة المضيق، قلعة أرواد، قلعة حماة، قلعة شيزر، قلعة صلاح الدين، قلعة جعبر، قلعة بصرى، قلعة الرحبة، قلعة الرباح، قلعة الزلبية، قلعة شميميس، قلعة أبو سفيان، قلعة مصياف، قلعة برزية، قلعة أبو قبيس، قلعة الرصافة، قلعة يحمور، قلعة العريمة…. وغيرها.
وعلى سبيل المثال تعد قلعة حلب من كبرى قلاع العالم وأشهرها وهي تتوسط مدينة حلب وتتربع على قمة رابية مرتفعة نحو خمسين متراً عن مستوى مدينة حلب وتشرف عليها من جميع جهاتها، ويحيط بالقلعة خندق بعمق ثلاثين متراً، تعاقب على إشغالها الحثيون والآراميون والسلوقيون والرومان والبيزنطيون أقيمت على أنقاض عدة قلاع متلاحقة قديمة بسبب أهمية المرتفع الذي تحتله لكونه المرتفع الأكثر أمناً ليكون مقراً للحكم ولإدارة شؤون الدولة في حين يعود تاريخ إشادة أهم المباني فيها إلى الفترة الأيوبية أي منذ أكثر من ثمان مئة عام.
تعرضت قلعة حلب شأنها في ذلك شأن العديد من المواقع السورية للعديد من الحروب والغزوات حيث هاجمها المغول بقيادة هولاكو عام 1260ميلادي ودمر جزءاً كبيراً منها ثم تم تحريرها بعد هزيمة المغول في معركة عين جالوت، كما تعرضت للغزو مجدداً من تيمورلنك عام 1400 ميلادي ودمرها من ضمن ما تم تدميره في مدينة حلب وتم تحريرها فيما بعد وإعادة بنائها وترميمها.
تعكس عمارة القلعة التطور الكبير الذي وصلت إليه فنون العمارة العسكرية من خلال طريقة عمارتها وأساليب تحصينها وتنوع اشكال الدفاع عنها، كما أن التحصينات التي تمت إشادتها تشكل إعجازاً في التحصين في نسق العمارة العسكرية في القرون الوسطى، وتتنوع بين أشكال أبراجها المربعة والمستطيلة والسداسية وبالمدخل المتعرج والأعمدة العريضة في السور الذي يجعل الجدار متماسكاً إضافة إلى المسامير الحجرية في السور الضخم، والفتحات المتعددة لرمي السهام والأبواب الحديدية المصفحة، إضافة إلى استخدام الممر الخارجي المكشوف والذي حيث يسمح للمدافعين ضرب المهاجمين الذين يتمكنون من كسر خط الدفاع الأول ولا يؤدي الجسر مباشرة إلى المدخل الرئيسي للقلعة وإنما ينحرف بزاوية قائمة ليؤدي إلى المدخل وضلعا الزاوية عبارة عن جدارين مجهزين بالسقاطات ومرامي السهام التي تسمح بالقضاء على العدو المهاجم كما تمنعهم من استخدام الأداة القديمة في تحطيم الأبواب والتي تسمى الكبش بسبب وقوع المدخل ضمن هذا المدخل المتعرج وهذا النوع من المداخل يسمى المداخل المنكسرة، وهي المداخل التي يرجع فضل تصميمها إلى المعماريين العرب
وكانت الرابية التي تتوضع عليها القلعة في العصر الإغريقي اكروبول المدينة ويعني هذا المصطلح بصورة عامة إلى قلعة بنيت على أعلى وأفضل جزء للدفاع عن المدينة، وهو بمثابة الملجأ النهائي للناس خلال الهجمات التي تتعرض المدينة لها وكانت هذه الرابية مقراً لمعابد حثية وآرامية.
وأجد أنه من الضروري الإشارة إلى أن المديرية العامة للآثار والمتاحف تقوم بجهود كبيرة ومميزة ومتواصلة لأعمال الترميم والتنقيب في القلعة منذ عام 1950.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض الطاهرة..
نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال..

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن