ثقافة وفن

حامية وحامية.. واتركها..

| إسماعيل مروة

حامية وحامية.. تعودنا في حياتنا كلها أن نستخدم الاعتدال في حديثنا وفي أمثالنا، فنقول: على الحافر، ونقول خدّ وعين، ونقول: طاسة حامية وطاسة باردة.. وكل هذا في إطار السعي إلى الاعتدال والتأكيد عليه، وفي حديثنا الشرعي نسمع كثيراً عبارات مثل: الإسلام المعتدل، الوسطية في الإسلام، وما شابه ذلك من تعابير قد تكون مشمولة بالمسيحية واليهودية كذلك، بل إننا نجد عبارات سياسية تتحدث عن الاعتدال! بل إن كثيراً من المتحدثين، وهم لا علاقة لهم بما يتناولونه أو يتم تداوله، يتحدثون عن الإسلام الشامي أو الإسلام السوري.. وما شابه ذلك من تعبير، وصادف أن حدثني أحدهم عن الإسلام الشامي، فسألته: ما صفاته؟ قال الاعتدال. فسألته: ما حدود الاعتدال؟ فقال الإسلام الشامي!! فخرجت بنتيجة تقول هذا الشخص وأمثاله لا يعرفون الإسلام ولا الإسلام الشامي، ولا يعرفون الاعتدال كذلك! ومن هنا نجد أن جلّ التعابير التي نسمعها هي تعابير إنشائية فضفاضة لا علاقة لها بما يجري حقيقة.
إن المشكلة في أسلوب تعاطينا مع أنفسنا أولاً، ومع الآخر، فنحن نرى أنفسنا على صواب، ومن يدر في فلكنا ويهلل لنا يشاركنا في جزء من الصواب، وإن اختلف معنا بجزئية فهو قد مَرَق عن الصواب، وإن اتسع الخلاف فالأمر أَصبح عداء، ودون أن نراجع مفهوماتنا عن الصواب، والخطأ، ودون أن نقتنص فرصة العودة عن الخطأ إن كان ثمة من خطأ.. ولكننا ملكنا فضيلة ليّ العنق للقضايا، وتفرّدنا في التفسير والتأويل، وأصبحنا ندير لساننا في جوفنا كما نريد ونتحايل، يبدأ تحايلنا على الولد والوالدة ويستمر إلى الأستاذ ليصل إلى السياسة، ويتعملق ليصل إلى التحايل بالكلام واللسان على النص المقدس والذات الإلهية. فتحولت حياتنا إلى كذب في أسرنا، والكذب في الأسر ينشئ جيلاً وأجيالاً بلا هوية، فلا الولد حدّد رغباته، ولا درس ميوله، ولا اشتغل على شخصيته، وهذا الولد نفسه سيصبح في مرحلة لاحقة في مكان ما، وفي موقع ما، ولنا أن نتخيل التخبطات في هذه الشخصية والتي ستكون كارثية على الذات والمحيط والمجتمع.. وتزداد المسألة تعقيداً عندما نمارس هذه المداهنة وغياب الشخصية، ونحن في مواقع وأماكن مهمة، فيمكن أن نخطئ، ومع ذلك نفسّر كما نشاء، ونضع الأنظمة، وبحرف جر نغير الدالّ والمدلول، وحتى لا يظن أن هذا الأمر محض خيال، لننظر إلى قرارات الأمم المتحدة الانسحاب من الأراضي المحتلة، أو الانسحاب من أرض محتلة، فالأولى تتحدث عن الأرض المعروفة العهد بتمامها، والثانية على التنكير تتيح الاقتطاع، وها نحن قد أمضينا خمسين عاماً دون أن نصل إلى نتيجة.
وهذه التفسيرات والتأويلات في المستوى الوطني تطول مفهومات الأمانة والوطنية والخيانة، فهذا خائن وذاك وطني، وكل جانب يملك القدرة واللغة على توصيف الآخر بما يشاء من الأوصاف اللائقة وغير اللائقة للوصول إلى غايته من الحكم، وقد يكون من يتهم الآخر بالخيانة أكثر خيانة، لكنه قادر على الحديث والمراوغة والتفسير والتأويل..! وخلال الحرب على سورية رأينا المصائب والكوارث في تصنيف الناس، فهذا لمجرد أنه يعمل موظفاً حوسب على أنه موالٍ للدولة، فنهب وربما قتل، وبالتفسير استطاع هؤلاء إقناع أنفسهم أولاً، وربما استطاعوا إقناع من يواليهم بشيطنة الدولة!! وهل الدولة كذلك؟ وهل يتطابق غضب الإنسان من شخصيات مسؤولة مع الغضب والسخط على الدولة التي تنظم حياة الناس؟! وفي الوقت نفسه نجد بعض الناس الفاسدين والمرتشين والمرتهنين للآخر، وهم في مواقع مؤثرة يسبغون على المخالف ألفاظ الخيانة والعمالة! فهل يحق لهم ذلك؟ وهل يعفيهم تربعهم في مواقع من حمل صفة الخيانة والفساد؟! وهل تختلف آثار أعمالهم المعادية للوطن عن آثار ذاك الذي يراه المواطن العادي خائناً؟! المواطن العادي وحده هو من يحكم على الناس، سواء كانوا في السلطة أو يريدون الانقضاض عليها، لأنه وحده المتأثر بالفعل ورد الفعل، ووحده الذي يقف في الطابور، وينتظر في المواقف، ويدفع أقساط المدارس من تعبه! أما ما عدا المواطن فلا يحق له أن يقول، ومع ذلك نجد من يسحب هذا الحق من الوطن والمواطن على السواء ليجعله حقاً خاصاً بمن يتربع في مكان ما، أو فيمن يطمح بالتربع ذات يوم من الأيام!!
حين نتوقف عن التفسير والتفسير المضاد تعود حياتنا إلى طبيعتها، ويمكن لأحدهم أن يقول: لقد أخطأت أعتذر أو أنسحب، ولكننا بما أننا لم نفعل هذا الشيء حتى الآن فإن الدوامة مستمرة، ولأن الشرع يقصد الحياة، والحياة تجمع بشري، فقد توجه إليهم، لكن هذا التجمع البشري استطاع وبذكاء أن يمارس عملية أنسنة الشرع، وأن يجعل المصلحية هي الأساس، فجاءت القراءات، وكان التفسير مشابهاً لحاجة التجمع، ففي تفاسير الكتاب المقدس نجد الطوائف، وفي تفسير القرآن الكريم نجد المذاهب، بل إن الباحثين يقولون لك: تفسير معتزلي وظاهري وباطني، وذلك حسب انتماء المفسر والقارئ، وقلما نجد من يقف في التفسير عند الظاهرة الدينية واللغوية وحسب!!
كثرت التفاسير، وكل تفسير يريد أمراً ما، والذي يريده هو المفسّر أو المكان أو الظرف، وبقدرة قادر يتحول هذا التفسير إلى مقدس، وتصبح هذه القراءة أصلاً، والنصّ المقدس يصبح خلفية!!
أما سمعنا من مشايخ أن الله يريد الأمر الفلاني، وأراد أن يعلمنا فضرب مثلاً؟! الله لم يقل ذلك، ولم يقل أريد تعليمكم، ولم يقل بوسائل الإيضاح، لكن علماءنا الذين يتواصلون معه بطرائقهم استطاعوا أن يعرفوا غاياته وأن يفسروها لنا نحن الجهلة!!
عاتبني أحدهم مرة وقال: لست شيخاً، لا يحق لك أن تتحدث، ويجب أن تسأل المشايخ!!
لفظ الشيخ أعطاه قداسة! وكيف إن كان شيخاً دكتوراً، ولو حصل على شهادته دون أن يكون مجازاً أصلاً؟! ولا ينتبه هؤلاء إلى من يتصدى لشرح الحديث ولا يجيد قراءته وضبطه، ولا إلى من يجلس لتفسير القرآن وهو لا يجيد ترتيله، أو تجويده، علاوة عن عدم إجادته لقراءته أو مخارج حروفه!!
بل يملك الجرأة أن يتابع وأن يسخّف العلماء الحقيقيين، الذين عليهم أن يتبعوه! وهنا أقول: لا مشكلة، فعلاقته مع الله، أما أن يرفض ملاحظة فتلك مشكلة كبرى أنت خصمه فيها، وربما طالك الأذى لأنك تجرأت وقلت له: أنت بشر..!
بالمناسبة كل هذه الأمثلة موجودة على مستوى عالمنا العربي الذي يعيش الماضي لأنه أكثر ربحاً وفائدة، ولكنني استقيتها من سورية، ومن الإسلام المعتدل، ومن السياسة العلمانية المعتدلة، ومن الإدارة التي تنتقي الجدير!! وأنا أعلم معنى الإسلام الشامي، ومعنى أن تكون مجتهداً لنفسك وخادماً للآخرين، فلا أحد يتنطع ويقول: نحن غير..! نعم نحن غير لو أردنا أن نكون، أما الآن فالطاسة حامية وحامية، والضرب على الحافر والحافر، ولا يوجد أي اعتدال في الأيديولوجيات سواء كانت سماوية أم وضعية حزبية.. كله يشبه بعضه وبعضه نتيجة كله، فلا تبتئس أيها السوري.. أنت غير!! والعهدة على الراوي والمفسّر والمسؤول.. ولا داعي لإصلاح شيء، فالله سيحّل الأمور، وهو الذي يتولى كل شيء!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن