ثقافة وفن

الذكرى السادسة والثلاثون لمجزرة صبرا وشاتيلا.. جريمة وقعت والعقاب غاب … صباح 16/أيلول/1982 لم يستيقظ أهالي مخيمي صبرا وشاتيلا كباقي بني البشر.. إذ كانوا نياماً بالإكراه.. وإلى الأبد

| المستشار رشيد موعد

بعد اجتياح الكيان الصهيوني يوم 6/حزيران/1982 لبنان وصلت قواته مشارف العاصمة بيروت. وكانت ذريعة الاجتياح، قيام أحد الفلسطينيين بإطلاق النار على الديبلوماسي الصهيوني في (لندن) المدعو (شلومو آرغوب) لتدخل بعدها القوات الصهيونية الأراضي اللبنانية، وترتكب أفظع الجرائم بحق الشعبين العربيين الفلسطيني واللبناني.. ورغم أن منفذي هذه المجزرة المباشرين كانوا من الميليشيات اليمينية اللبنانية، إلا أن مخططيها والمشرفين عليها والمشاركين في بعض مراحلها كانوا قادة جيش الاحتلال الصهيوني وعلى رأسهم أرئيل شارون وزير الدفاع وروفائيل إيتان الذي شغل منصب رئيس الأركان آنذاك.

ففي أوج الحرب الإسرائيلية على الشعب العربي الفلسطيني والحركة الوطنية اللبنانية، قامت قوات يمينية لبنانية قدر تعدادها باثني عشر ألف مسلح باقتحام المخيمين الوادعين.. حيث بدؤوا بذبح عدد كبير من سكانهما من نساء وشيوخ وأطفال.. وكذلك بيوت بكاملها هدمتها البلدوزرات فوق سكانها.. وأصبحوا جثثا مكدسة فوق بعضها أشبه بدمى لا حياة فيها.. وأخذوا يطلقون النار على الأهالي عشوائياً. لقد جرت في المخيمين مذبحة حقيقية ما زالت من دون عقاب.. هذا ما قاله الصحفي الروسي (سيرغي سيدوف) لكونه كان شاهد عيان وقت الحادث وتابع يقول: (بعد أن خيمت نشوة القتل على المجرمين.. بدؤوا يوفرون الرصاص والذخيرة الحيّة.. واستبدلوها بالسكاكين والحربات والفؤوس لقتل أكبر عدد ممكن من النساء والشيوخ والأطفال العزل المدنيين الآمنين في بيوتهم.. وقاموا بخنق البعض بالحبال، كما أحرقوا البعض الآخر.. وسحقوا ما تبقى بالجرافات وهم أحياء).
حتى إن الصحافة الأميركية المتعاطفة مع الكيان الصهيوني أجبرت أمام فظاعة الهلوكوست الجديد إلى الاعتراف بأن مسؤولية تلك المجازر والجرائم تقع على عاتق القادة الصهاينة الثلاثة مناحيم بيغين رئيس الوزراء ووزير الدفاع أرئيل شارون وروفائيل إيتان رئيس الأركان آنذاك.
فقد كتبت صحيفة (تشيكاغو تربيون) عام 1982 تقول: (علينا ألا نصدق (إسرائيل) بعد الآن.. فالقادة الإسرائيليون ادعوا حاجتهم لضمان أمن جنوب لبنان وحاصروا العاصمة بيروت.. وزعموا أنهم لن يدخلوها.. لكنهم فعلوا.. ودخلوها).
وثائق سرية أشارت إلى أن أميركا كانت على علم مسبق بمجازر صبرا وشاتيلا.. ويرجح أن لها يداً بهذه المجزرة.. فقد كشفت صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية عام 2012 عن وثائق سرية تظهر علم واشنطن بذلك، حيث أظهرت هذه الوثائق حواراً جرى بين كل من وزير الدفاع الإسرائيلي (شارون) ومبعوث أميركي إلى المنطقة، يظهر فيها تنسيقهما حول غض الطرف عن ارتكاب ميليشيات لهذه المجزرة.
بعد المجزرة بساعات قال (مناحيم بيغين) رئيس الوزراء آنذاك: ( غوييم هاركو.. غوييم) ومعناها.. أن الأغيار من غير اليهود قتلوا الأغيار أيضاً من غير اليهود.. وهذا يدلل على أنه لا يهمه ماذا جرى.. ومن قتل من.. ويعني ذلك أن حلفاءهم هم من قتل.. فكأن الصهاينة الذين حاصروا بيروت نحو ثلاثة أشهر، وأشبعوها قصفاً وقتلا ودماراً لم يشاركوا في المجزرة، ولم يكونوا قد اجتاحوا العاصمة اللبنانية عقب مقتل الرئيس المنتخب (بشير الجميل) آنذاك، وأيضاً رحيل القوات الفلسطينية عن بيروت الغربية ضمن اتفاق دولي لم يلتزم الصهاينة به.. ولم يحترموه بقيادة وزير الحرب آنذاك (أرئيل شارون).. الذي خاطب جنوده عقب انتهاء المجزرة قائلاً: (أهنئكم.. فقد قمتم
بعمل جيد.. ورائع. هذا يدلل على أن الصهاينة شركاء أساسيون في المجزرة وقواتهم هي التي نقلت القتلة المجرمين لتنفيذ تلك المجزرة.
حتى تاريخه.. لم تتم محاسبة أي مسؤول عن مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا.. مع أن الكثيرين منهم ما زالوا أحياء.. وبعضهم يمارس أدواراً سياسية وإعلامية ونقابية.
والمثير للاستغراب أن القيادات الفلسطينية حتى تاريخه لم ترفع أي دعوى قضائية بحق المسؤولين عن المجزرة. ولم يطالبوا بفتح تحقيق في هذه الجريمة الموصوفة لمعاقبة مرتكبيها.. فالقانون الدولي ينص على أنه لا تقادم زمنياً على جرائم الحرب هذه.
الطبيبة البريطانية (سوى شآي إنخ) وهي من أصل ماليزي.. وصفت هذه المجزرة بأنها (كارثة حقيقية.. لا يمكن وصفها.. جرت في مخيمي صبرا وشاتيلا)، هذه الطبيبة عالجت المقاوم نضال حمد صاحب موقع الصفصاف اليوم في أوروبا الذي أصيب بقذيفة مدفع أثناء تصديه للعدو في هذه المجزرة، وعولج في مشفى غزة في بيروت حيث خلّفت الإصابة لديه عجزاً وظيفياً في ساقه اليمنى بشكل دائم.
أما الشهداء الذين ذبحوا ذبحاً وقتلاً بالرصاص ودفنوا تحت الأنقاض فقد تفاوتت أعدادهم مع تفاوت واختلاف المصادر. فبينما تحدث بعضها عن استشهاد3500 قالت مصادر أخرى إن عدد الشهداء بلغ 7 آلاف من أصل 20 ألفاً هم سكان المخيمين، وتبين من الإحصاءات أن ربع الضحايا لبنانيون والباقي فلسطينيون. علماً أن بعثة الصليب الأحمر التي كانت تنتشل الجثث أفادت بأنها سجلت فقط المزودين في جيوبهم بأوراق ثبوتية، ولم يتم تسجيل من كانوا مجهولي الهوية، وكان جيش الكيان الصهيوني قد ضرب طوقا مساء الخميس 16/أيلول/1982 أحكم بموجبه الخناق بشدة على المخيمين وأطلق القنابل المضيئة ليلاً، وقامت وحدة المدفعية الإسرائيلية في بيروت بإطلاق قنبلة إنارة واحدة كل دقيقتين لتسهيل دخول أفراد الميليشيات اليمينية إلى المخيمين، وشارك في حصار المخيمين أكثر من 150 دبابة وآلية صهيونية.
بعد هذه المجزرة أدخل الكيان الصهيوني نفسه في معضلة مزدوجة.. وهكذا أصبح مسؤولاً بصورة غير مباشرة عن هذا العمل الإجرامي الخطر.. واعتبر دخول المخيمات مخاطرة جسيمة وتم إلقاء هذه المهمة على الميليشيات ولم تهدأ العاصفة إلا بعد أن رضخ بيغين في النهاية إلى طلب إقامة لجنة تحقيق مستقلة.. حيث قامت هذه اللجنة بمهمتها وتفحصت المسؤولية الشخصية للمعنيين بالأمر في ثلاثة مجالات:
أولاً: دخول أفراد الميليشيات إلى المخيمات مع الأخذ بالاعتبار خطر وقوع مذبحة.
ثانياً: إن الذين كان من واجبهم التحذير من الخطر لم يفعلوا ذلك.
ثالثاً: الذين تلقوا الأخبار الأولى عن المذبحة لم يهبوا لمنع استمرارها وقد شكلت لجنة للتحقيق في هذه المجازر باسم (لجنة كاهان) نسبة إلى القاضي (كاهان).. وبذلك أوجدت لجنة التحقيق الصهيونية هذه وضعاً سياسياً جديداً في الكيان الصهيوني.. فقد أدانت اللجنة كلاً من أرئيل شارون وروفائيل إيتان حيث تنحى الأول كوزير للدفاع عن منصبه.. وإنهاء عمل الثاني كرئيس للأركان.
في اليوم الذي اعتزل فيه (شارون).. قال: ( إن خروجي من وزارة الدفاع سيؤثر في قوة (إسرائيل) الرادعة.. وبذلك أقر (شارون) بالمخاوف حين ربط مستقبل الكيان الصهيوني بمستقبله الشخصي، ولم يدرك أنه وعد الإسرائيليين بحرب واحدة على لبنان.. فتطورت هذه الحرب إلى حرب ثانية أطاحت به وبمستقبله، ودفعته إلى الاستقالة لإدانته بمجازر صبرا وشاتيلا.

قاضي محكمة الجنايات سابقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن