قضايا وآراء

بالونات اختبار لما يريد نتنياهو أن يذهب إليه

فرنسا- فراس عزيز ديب : 

«عليك أن تكون ثعلباً لتعي الأفخاخ المنصوبة، وأن تكون أسداً لتُرهب الذئاب من حولك». عبارة تُحاكي ما أراد «ماكيافيلي» أن يقوله في نظرية «الواقعية السياسية»، فالواقعية هي فهم للمجريات التي من خلالها نستنبط الحلول والمواقف، بالتالي تبدو الواقعية كحل وسط بين «المثالية» التي تقود للانعزال و«التهور» الذي يقود للهزيمة.
قبل أسبوعين، وفي مقال بعنوان (بين «مسمار جحا» والنهايات «الهوليوودية»: هل اقتربت المنطقة من الحل الشامل؟) قلنا في الخاتمة إن الخيارات جميعها مفتوحة حتى تصديق الكونغرس على الاتفاق النووي مع إيران، تحديداً أن رافضيه لم يستطيعوا حتى الآن هضم فكرة أنه بات واقعاً، وأكدنا على فكرة أن مشاغبة نتنياهو في سورية «كساحة مفتوحة» أمر وارد لكي يسحب ما تُسميه أميركا «انتصارات للدبلوماسية» في المنطقة. بمعنى آخر، إن «عدم صمت» نتنياهو سيعني أن المنطقة برمتها باتت في مكان آخر، فهل ما يجري في الجنوب السوري من اعتداءات «إسرائيلية» داخل الأراضي السورية هو تجسيد لفكرة «عدم الصمت» التي سينتهجها نتنياهو والأمر مرشح للانفجار، أم أن ما جرى هو مجرد عمليات موضعية هدفها إعادة رفع معنويات المسلحين على الأرض.
في واقع الأمر أننا أمام احتمالين اثنين:
الأول: إن هناك سعياً سورياً لفتح جبهة الجولان من خلال الإيعاز للمجموعات المقاومة بإطلاق صواريخ باتجاه الأراضي المحتلة مع افتراض أن الكيان الصهيوني لا يمكن له أن يصمت على هذا التصعيد.
تبدو هذه الفكرة غير منطقية لأسباب عدة، أهمها هو ادعاء الكيان الصهيوني أن عناصر من «الجهاد الإسلامي» هم من قاموا بإطلاق الصواريخ. لم يرغبوا في اتهام «حزب الله» لأنهم يعتقدون بمصداقية المقاومة التي ما كانت ستتردد بالإعلان عن تبني العملية لو أنها من قامت بها. الأمر الآخر، أن فكرة اتهام «الجهاد الإسلامي» جاءت وسط تصاعد الحديث عن قيام الجناح السياسي لـ«حماس» بدخول مفاوضات جدية لتوقيع هدنة طويلة الأمد برعاية (تركية- قطرية)، بالتالي يتم استغلال اسم «الجهاد الإسلامي» لطرحه كمنظمة «إرهابية» تسعى لضرب الأمن «الإسرائيلي»، والبدء بسحب اسم الجناح السياسي لحركة حماس من التداول بعد تعليبه في منظومة «الاعتدال العربي».
أما عن التوقيت، فإن الكيان الصهيوني هو من استفاد من بعض المعلومات التي روجت للقاء تم بين وزير الخارجية الإيراني «محمد جواد ظريف» والأمين العام للحركة «رمضان شلح» خلال زيارة ظريف الأخيرة لدمشق، بالتالي يعود الكيان الصهيوني للواجهة كطرف «مظلوم» له حق الدفاع عن النفس، بل يؤكد تبريراته الشهيرة لرفض الاتفاق النووي الإيراني بأن إيران لا يمكن أن تكون مأمونة الجانب، تحديداً عندما تترافق هذه الفرضية بسيل من المقالات للأقلام المأجورة أو التي تدعي الحياد (بالمناسبة هي أخطر من المأجورة) تتحدث وكأنها حضرت الاجتماع وسمعت «ظريف» يطلب من «شلح» إطلاق الصواريخ.
أما الفكرة الأخيرة التي تنفي الاحتمال الأول، فهي «الرد السوري». دائماً ما نقول إن سورية جزء من منظومة وليست «نظاماً»، بالتالي فإن قراراً من مستوى إشعال الجبهة هو قرار على مستوى محور. بمعنى آخر، إن هذا الدفع للتصعيد كان يجب أن يقابله رد، لكن هذا الأمر لم يتم وهو أمر وإن اختلفنا معه «عاطفياً»، لكننا نجد أنفسنا متوافقين معه «واقعياً»، وهو ما يقودنا للاحتمال الثاني: وهو أن الكيان الصهيوني هو من يسعى لتسخين الجبهة.
لتحليل هذا الاحتمال، يجب علينا أن نعرج على مفهومين خاطئين جرى تداولهما «بسذاجة» في الأيام الماضية، تحديداً عند أولئك «المتحدثين» في السياسة على الإعلام الرسمي والإعلام المقاوم.
أول هذه المفاهيم هي فكرة أن «الأصيل يتدخل الآن بعد إخفاق الوكيل». ألا يلاحظ من يكرر هذه العبارة أن هناك تبرأة شبه كاملة للكيان الصهيوني عن كل ما جرى قبل ذلك؟
بعد ما يقارب خمس السنوات من الحرب على سورية أما زلنا مقتنعين بأن الأصيل لم يتدخل؟! هذا تسخيف لمسار الأحداث، كان يمكن لنا أن نصدق هذه الفرضية لو أن الأمر في سورية لم يخرج عن نطاق المظاهرات والاعتصامات السلمية لإسقاط «النظام»، عندها سنقول إن الوكيل أخفق بإسقاط النظام سلمياً فتدخل الأصيل عسكرياً، أما مع ما يجري فكل من يحمل السلاح وكل من يقتل ويدمر هو بالنهاية «أصيل» لأنه لا فرق بينه وبين من يمده بالسلاح أو الذي يشوش على الاتصالات، والأهم هو تحديد الأهداف أو كما قلنا سابقاً «اللوائح الموسادية» المتعلقة بالكفاءات أو برادارات الدفاع الجوي، بعد كل ذلك نأتي لنقول «الآن» تدخل الأصيل؟!
النقطة الثانية وهي فكرة أن تكون «إسرائيل» تريد إشعال المنطقة لضرب الاتفاق النووي الإيراني، هنا علينا أن نعي أن الكيان الصهيوني في خياراته العسكرية على لبنان أو سورية لا يمكن له أن يقوم بها بمعزل عن الرضا الأميركي أياً كانت العلاقة بين نتنياهو وأوباما سوداوية، لكن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن لنتنياهو تجاوزها حتى عندما تحدثنا عن مشاغبة في سورية فهي مشاغبة تهدف لخلق المزيد من فرص «التسول» الأمني للكيان الصهيوني إن كان بالعدة أو العتاد، لكنها لن تفضي حكماً لمنع التصديق على الاتفاق على اعتبار أن هذا الأمر بات من الماضي. وعليه يبدو الكيان الصهيوني –بقبول ضمني أميركي- يجهز لمرحلة ما بعد التصديق على الاتفاق النووي، فهل هي منطقة عازلة على الطريقة التركية كما يروج، فتصبح القصة أبعد من دعم للعصابات المسلحة وأبعد من ارتدادات سقوط «الزبداني»، وفي كل الأحوال لا يزال السؤال مطروحاً متى سيكون الرد السوري؟
بداية نوضح هنا أننا نتحدث عن الرد في عمق الأراضي المحتلة، أما الرد على الطيران المعتدي فهو تم بعكس ما يروج البعض. لو تحدثنا بالعواطف لتمنينا أن يكون الرد اليوم قبل الغد، لكن لو تحدثنا بواقعية لاستخلصنا من «مكيافيلي» فرضية إن تكون ثعلباً تعي الأفخاخ، أفضل من أن تكون أسداً متهوراً في استخدام قوتك، تحديداً أن المجريات حتى الآن لا تعدو كونها بالونات اختبار لما يريد نتنياهو أن يذهب إليه، فهل يريد التصعيد؟ عندها لن نضطر أن نسأل أين الرد لأننا جميعاً سنشاهده.
لكن أن يكون الأمر مجرد إيعاز «إسرائيلي» للعصابات الإرهابية لإطلاق صواريخ على الأراضي المحتلة فيأخذها الكيان الصهيوني ذريعةً تهدف لضرب الأهداف التي تشكل نقاط قوة وتمنع المسلحين من التقدم، أو كما تحدثت مصادر عسكرية «إسرائيلية» بأن خطط الاقتحام البري باتت جاهزة، لكنها حكماً ليست موضع التنفيذ الآن، عندها فإن الرد وبواقعية يبدو بعيداً. قد نتفق وقد نختلف مع هذه الفكرة، لكننا في اللحظات المصيرية كالتي تحكمنا الآن، الوقت ليس للعواطف، الوقت للمعطيات على الأرض، والمعطيات على الأرض لها من يدركها ببرودة أعصاب، فبرودة الأعصاب العسكرية لا تقل أهمية عن برودة الأعصاب السياسية، تلك البرودة التي دفعت السيد «وليد المعلم» بلقائه الأخير الإعلام المصري لتذكير المصريين بنجاح «ثورتهم» ضد عصابة «الإخوان المسلمين»، ويبدو أن هذا التذكير هو أبعد من مجرد مخاطبة للشعب المصري، هو أراد أن يوجه بشكل عام رسالة للقيادة المصرية الحالية «التائهة» بأنكم سمحتم لأنفسكم بالذهاب بعيداً في حربكم ضد التطرف المتمثل بهذه العصابة ومن يمولها ويحميها عربياً وإقليمياً، فلماذا تعيبون علينا ذلك. فهل ستتذكر القيادة المصرية والشعب المصري يوماً أن هناك أعداء آخرين مشتركين هم «إسرائيل» أو «أحفاد العثمانيين» الذين يُمعنون القتل والإرهاب عبر ذراعهم الإرهابية في سورية ومصر من تفجيرات متنقلة، ألا تستدعي اعتداءاتهم المتكررة على سورية إدانة ما قبل أن تحدثونا عن «دور مصر».
من هنا يأتي التصالح مع الواقع، تحديداً عندما نشعر أن صمودنا حُكماً سيأتي بنتيجة ما. وعليه دعوا عواطفكم جانباً وانظروا بواقعية لكل ما يجري، فلكل شيء حساب، أم نسينا الحكمة التي تقول: «عندما أرفع سيفي لأقاتل، علي ألا أفكر بمن سيموت، علي أن أفكر بمن سيعيش».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن