ثقافة وفن

البحوث التربوية والاجتماعية ودورها في دعم عملية اتخاذ القرار في منظومة التعليم العالي

| أ. د. وائل معـــلا

تواجه منظومة التعليم العالي اليوم تحديات كبيرة على مستوى التخطيط الإستراتيجي ورسم السياسات العامة التي تلبي الحاجات المتزايدة على الصعيدين المحلي والعالمي، وتعالج النواقص التي تعوق عملية تطوير المنظومة برمتها. فهناك حاجة ملحة على سبيل المثال، لتطوير سياسة القبول الجامعي الحالية وجعلها أكثر إنصافاً، بحيث تستند إلى التوقعات المستقبلية المستمدة من خطط التنمية الاقتصادية وحاجات سوق العمل الآنية والمستقبلية. وهناك حاجة كبيرة لوضع خطة متكاملة لضمان جودة مؤسسات التعليم العالي وبرامجها المختلفة، وكذلك وضع إستراتيجية للبحث العلمي خاصة بمؤسسات التعليم العالي تتماشى مع الإستراتيجية الوطنية للبحث العلمي وتلبي متطلباتها. كما أن الحاجة كبيرة لوضع إستراتيجية وطنية للشراكة بين مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل تضمن المواءمة ما بين مخرجات البرامج التعليمية في الجامعات والمعاهد من جهة، وحاجات سوق العمل من جهة أخرى، وتوفر لطلاب الجامعات والمعاهد في مختلف الشركات والمؤسسات العامة والخاصة فرص التدريب وتطوير المهارات العملية ورعاية التميز والإبداع في المجالات كافة.

هناك خطط حالية قيد الإعداد لإحداث أنماط تعليمية جديدة، كالتعليم المسائي بغية زيادة فرص الالتحاق بالتعليم العالي، وخطط لوضع تصور جديد للتعليم المفتوح في الجامعات والفئات المستفيدة منه، لكن لا بد قبل إقرارها ووضعها موضع التطبيق من دراسة أثرها على منظومة التعليم العالي وعلى المنظومة المجتمعية كلها.
إن نجاح عملية رسم السياسات ووضع الخطط المرتبطة بها رهن بضرورة كونها متأنية مبنية على أسس مدروسة بعناية، ولا يكون هذا إلا بالاعتماد على نتائج البحوث والدراسات المدعومة بالبينات والمستندة إلى معلومات دقيقة تغطي جميع الأوجه المتعلقة بالسياسة المرسومة والخطط الموضوعة والفئات المستهدفة. وفي حال عدم توافر مثل هذه البحوث والدراسات تصبح القرارات المتخذة اعتباطية قد تؤدي لاحقا إلى نتائج سلبية يضطر واضعوها أو القائمون على تنفيذها إلى تعديلها أو التراجع عنها.
وغالبا ما تتولى أقسام أو مراكز بحوث تخصصية في الجامعات القيام بمثل هذه البحوث لما يتوافر لدى الجامعات من خبرات أكاديمية رفيعة المستوى في طيف واسع من الاختصاصات العلمية والتربوية والاجتماعية، ومن منهجية علمية لا تقوم البحوث إلا باعتمادها، توخياً للدقة العلمية والنزاهة الأخلاقية والموضوعية التامة.
وكنموذج عن البحوث الني تدعم عملية اتخاذ القرارات في منظومة التعليم العالي، بحث أجراه فريق من المختصين من جامعتي برنستون ونيويورك. البحث أجراه كل من درو ألين Drew Allen المدير التنفيذي لمبادرة استكشاف البيانات والتحليلات للتعليم العالي في جامعة برنستون Initiative for Data Exploration and Analytics for Higher Education، Princeton University، وغريغوري ولنياك Gregory C Wolniak مدير مركز بحوث مخرجات التعليم العالي في جامعة نيويورك Center for Research on Higher Education Outcomes، New York University، واستهدف دراسة تبِعات ارتفاع الرسوم الجامعية وأثرها على التنوع الطلابي العرقي والاجتماعي في الحرم الجامعي. قام الباحثان بدراسة ارتفاع الرسوم الدراسية في الكليات والجامعات العامة التي مدة الدراسة فيها أربع سنوات، واستندوا في دراستهم على مسح المعطيات الممتدة على فترة 14 عاماً لمعرفة ما إذا كانت رسوم التعليم في الكليات والجامعات العامة قد غيرت من التنوع الطلابي في الحرم الجامعي.
لاحظت الدراسة أن رسوم التعليم الجامعي في الولايات المتحدة – كما في بلدان عديدة من العالم – استمرت في الارتفاع بمعدل مذهل، ورصدت شعوراً عميقاً بالقلق ينتاب الناس حيال الصعوبات التي يواجهها الطلاب وأسرهم في دفع تكاليف تلك الرسوم الجامعية.
وتوصّل الباحثان إلى نتيجة مفادها أنه مقابل كل ارتفاع مقداره 1000 دولار أميركي في الرسوم الدراسية في الجامعات العامة حيث مدة الدراسة أربع سنوات، ينخفض التنوع الاجتماعي بين الطلاب المتفرغين للدراسة بنسبة 4.5%. بمعنى آخر فإن التنوّع الاجتماعي ينخفض مع ارتفاع رسوم التعليم العالي. هذا يعني أن كليات وجامعات الولايات المتحدة أصبحت لا تعكس التنوع العرقي والاجتماعي في البلاد كلها.
لكنّ ظاهرة انخفاض التنوع الاجتماعي للطلاب ​مع ارتفاع رسوم التعليم تظهر أكثر ما تظهر في كليات وجامعات معينة، وهذا ما يعد في نظر الباحثين التربويين والاجتماعيين، كما في نظر الجامعات، قضية مهمة للغاية؛ فقد يعني ذلك عزوف المزيد من الأقليات والشرائح الاجتماعية ذات الدخل المتوسط عن الالتحاق بالجامعات، ما يعني حرمان هذه الفئات الاجتماعية من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للتعليم العالي.
لكن انخفاض التنوع لا يؤثر فقط في أولئك الذين يتم استبعادهم من التعليم العالي بسبب كلفته المرتفعة، بل يؤثر أيضاً في الطلاب القادرين على تحمل تكاليف الرسوم الجامعية. وقد بينت الأبحاث التي أجريت على مدى عقد من الزمان أن المزيد من التنوع في الحرم الجامعي يجلب فوائد عديدة، أهمها بيئة فكرية أغنى تتميز بالانفتاح الفكري وتنوّع الرؤى وتعدّد وجهات النظر، ومن ثم فإن غياب هذا التنوع يؤدي إلى التقوقع الاجتماعي والتعصب ورفض الآخر.
من الواضح أن زيادة الرسوم الدراسية الجامعية لا ينظر إليها فقط من زاوية الاعتبارات المالية، بل يؤخذ أيضاً في الحسبان أثره في تغيير التركيبة الاجتماعية للطلاب في الحرم الجامعي. فزيادة رسوم التعليم لا يعني فقط أن الطلاب وذويهم سيضطرون لتحمل المزيد من الأعباء المالية لتوفير الدراسة في الجامعة، بل يعني أيضاً أن فرص التحاقهم بالجامعة ستتضاءل الأمر الذي له تبعات سلبية ويلحق ضرراً يتطوير المجتمع عموماً، أو ستتضاءل فرص انضمامهم إلى الجامعة مع طلاب من خلفية اجتماعية مختلفة، وهذا يضعف حتماً فرصة الطلاب الملتحقين في الحصول على حياة طلابية أكثر تنوّعاً وغنى، ولا يخفى ما لهذا الأمر من تبعات ثقافية ونفسية واجتماعية.
وعلى الرغم من أن نتائج هذا البحث لا تعد ذات أهمية لمؤسسات التعليم العالي الحكومية في سورية (من جامعات ومعاهد)، حيث الرسوم الدراسية منخفضة وحيث يوفر التعليم العالي لأغلبية الطلاب بشكل شبه مجاني، فإن من المفيد إجراء دراسة مماثلة، على سبيل المثال، عن آثار الارتفاع «الخيالي» للرسوم الدراسية في الجامعات الخاصة، وخاصة في الكليات الطبية، وأثره على التنوع الطلابي في الجامعات الخاصة وعلى الشرائح الطلابية المستفيدة من التعليم الجامعي الخاص، وخاصة أن هذا الارتفاع جعل من الانتساب إلى هذه الكليات أمراً بعيد المنال حتى بالنسبة لأبناء الطبقة المتوسطة.
إن الجامعات ومراكز البحوث والدراسات مدعوّة لإجراء هذا النوع من البحوث والدراسات التي تخدم منظومة التعليم العالي وتسهم في حل المشكلات التي تعترضها. كما أنها مدعوة لأن تضع نتائج بحوثها ودراساتها المدعومة بالبينات بين أيدي أصحاب القرار لمساعدتهم في الوصول إلى وضع سياسات متأنية وإصدار قرارات سليمة لا تترك آثاراً سلبية تستدعي لاحقا تعديلها أو التراجع عنها نهائياً. وهناك طيف واسع من البحوث التي تضطلع مراكز بحوث سياسات التعليم العالي في أنحاء مختلفة من العالم بالقيام بها خدمة لمنظومة التعليم العالي ولعملية اتخاذ القرار فيها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر البحوث المتعلقة بإستراتيجيات تمويل منظومات التعليم العالي الكبيرة، وحاكمية وإدارة منظومات التعليم العالي الكبيرة لضمان فعاليتها والمشاركة الواسعة فيها، وإستراتيجيات ضمان الجودة في منظومات التعليم العالي الكبيرة في ظل زيادة كبيرة في معدلات الالتحاق، والتنوع الاجتماعي للطلاب.
إن باحثينا الاجتماعيين مدعوون بدورهم للقيام ببحوث مشابهة مبنية على أسس منهجية، تأخذ بالحسبان واقعنا وظروفنا الخاصة واحتياجات مجتمعاتنا وجامعاتنا وطلابنا. ولا بدّ أن تُبنى القرارات والأنظمة المتعلقة بعمل مؤسسات التعليم العالي العامة والخاصة على نتائج هذه الدراسات، وأن تأخذ بالحسبان انعكاسات تلك القرارات على تلك المؤسسات، وعلى الشرائح الاجتماعية الأكثر تأثراً بهذه القرارات، وعلى النتائج المترتبة على ذلك تنموياً ومجتمعياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن