ثقافة وفن

«بان آراب».. والكوميديا غير التهريجية … الإشارة إلى مواقع الخطأ في مجتمعنا بجرأة وفضح تسلق المراوغين

| د. عامر مارديني

في حديث مع صديق عزيز حول واقع الكوميديا السورية قال لي: لعل هذه الكوميديا -غير التهريجية – كانت الأكثر إبداعاً، وإمتاعاً، والتزاماً من أي كوميديا عربية أخرى. إنها كوميديا عظيمة، تصف الواقع بحقيقته، وتدخل القلوب دونما استئذان، وكذلك فقد انعدم تقريباً تدخل مقصّ الرقابة عليها.

يتابع صديقي حديثه قائلاً: لقد كان معظم المسلسلات والعروض المسرحية المنتجة والمعروضة تلفزيونياً ما قبل الأزمة يشْرح ويشرّح الواقع الذي يعيشه المواطن السوري، وحتى المواطن العربي، من المحيط إلى الخليج، بكل التزام ومسؤولية وشفافية، وبشكل فكاهي راقٍ، تشير من خلالها إلى مواقع الخطأ في مجتمعنا بجرأة لا مثيل لها. وهنا لا بد لنا أن نستذكر مثلاً مسلسلات شهيرة لا حصر لها مثل مرايا، ويوميات مدير عام، وبطل من هذا الزمان، وبقعة ضوء، والدغري، وأحلام أبو الهنا، وضيعة ضايعة، والخربة، وغيرها. كذلك لا ننسى هنا تلك الأعمال المسرحية الخالدة كمسرح الشوك، وضيعة تشرين، وغربة، وكاسك يا وطن، إضافة إلى أعمال سينمائية رائعة كفيلمي التقرير، والحدود،… إلخ. وماذا نعد بعد؟ إبداعات ما بعدها إبداعات، عروض تلفزيونية ومسرحية وسينمائية عظيمة لامست بموضوعاتها شغاف القلوب، ظهرت لنا وعلينا في وقت كانت فيه الحلوق جافة أو مجففة، وحتى الكلام بين اثنين كان إما بالهمس، وإما ضمن غرف مغلقة.
أجل، لقد كان يسمح في مسلسلات تلفزيوننا التحدث عن أشياء كثيرة، سواء من فوق الحزام أم من تحته، التحدث عن هموم الوطن والمواطن، عن أمور عديدة لا حصر لها. لقد تناولت أعمال فنانينا تسلق المراوغين والمخادعين للوظائف العامة، عن مغامرات المتاجرين بقوت الناس، عن أثرياء الحرب، عن الأساليب الخبيثة للرشوة، عن طرق التهريب الآمنة، وعن، وعن، وعن. مساحات من حرية الفن لا حدود لها، أدهشتنا بمدى اتساعها، لا بل كانت تدهش كل من يتابعنا من الإخوة العرب، حتى إننا قلنا، صديقي وأنا، متحدِّين من يرغب، أن يدلنا على تلفزيون أو مسرح عربي يشبه ولو بواحد من مئة مما كان لدى السوريين بهذا الكم، وبتلك التقنية والحرفية.
وبالفعل، عدت بعد أن انتهى حديثنا إلى الشابكة لأستقصي واقع الكوميديا الملتزمة في تلفزيونات الوطن العربي فرأيت أننا متفوقون بأشواط وأشواط عما لدى العرب مجتمعين في مساحة النقد والانتقاد اللاذع لتلك المظاهر المقيتة التي تجتاح مجتمعنا بشكل خاص، ومجتمعاتنا العربية بشكل عام.
لقد كان الإبداع في «اسكتشات» بقعة ضوء، وفي مرايا، وفي يوميات مدير عام يضحكنا ويبكينا في الوقت نفسه، يجعلنا نتحدث عن تلك المشاهد لأيام طويلة، نحكي عنها في الشارع، في المكتب، في الجامعة، أو حتى على التلفون، وكذلك لا غرابة أننا ما زلنا نحفظ إلى الآن كل كلمة قيلت على مسرح كاسك يا وطن، أو غربة، أو ضيعة تشرين، كان مسموحاً لنا، كمواطنين، أن نتفاعل مع كل مشهد نراه، تفاعلاً بالمشاعر وحسب، تفاعلاً إما بالضحك، أو بالبكاء، أو بالاثنين معاً.
لكن السؤال الأهم هو: ماذا فعل أو غيّر كل هذا الكم من الكوميديا العظيمة في مكافحة المظاهر السلبية التي اهتمت بها هذه الأعمال، أو قامت بالإضاءة عليها، أو تجرأت على نقدها؟ لقد تكاثرت تلك الكوميديا بشكل هائل حتى أصبحت في وقت ما ممجوجة، مملة، والسبب هو أنها لم تستطع أن تحرك على الأرض ساكناً، على الأقل في معالجة أبسط هموم المواطنين، لا بل على العكس، لقد استطاعت – من دون قصد – أن تسلّي هؤلاء الأشخاص الذين قصدت بعض «الاسكتشات» إظهار فسادهم، أو التلميح إليهم، فتراهم جالسين يضحكون بكل صفاقة من عديد المشاهد الكوميدية حتى تكاد تتشقق شفاههم، أو تتفسخ أحناكهم، من دون أن يفكّروا، ولو للحظة، أنها ربما تقصدهم، وكأن هذه الأعمال صنعت لإضحاكهم، أو أنتجت لتسليتهم. حتى إن الحال قد وصلت بهم لأن ينتقدوا بأنفسهم تلك الحال الصعبة للمواطن، التي تناولها ممثل ما، أو ذلك الجانب من الفساد الذي قام مشهد ما بالإضاءة عليه.
نعم إن كثرة عرض أعمال كهذه لم يعد له أي تأثير على الناس، حيث لم تستطع أن تثير أو تهزَّ كيان أحد ما، سواء من المواطنين أم حتى من عديد المسؤولين، وخاصة بعد ما خلّفته تلك الحرب الظالمة من آثار سيئة أصبح من الصعب محوها، وحالات من الفساد باتت مستشرية، لعل الزمن سيطول كثيراً للتخلص منها.
لذلك هي دعوة لإنتاجنا الدرامي والمسرحي أن يكتفي من الآن فصاعداً بالمسلسلات التاريخية، أو بتلك الأعمال التي لها علاقة بمحور العشق والغرام، أو الاكتفاء ببرامج الإمتاع، فلعل الحديث عن دراما كهذه هو أفضل وأجدى أن يكون حديث الناس اليومي. وكذلك هي دعوة لممثلينا البارعين من ذوي السحنات الجميلة والملابس الأنيقة للمشاركة بأعمال «بان آراب» حصراً، فهي الخلاص لنا ولهم من استهلاك لتلك القضايا البالية التي تخص عامة الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن