قضايا وآراء

زعامة الإقليم

| سامر علي ضاحي

لا شك أن الكثيرين ترقبوا نتائج القمة التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان بالأمس في روسيا لما لمفرزاتها من أهمية ستنعكس بلا ريب على تطورات مصير إدلب التي يلتف حولها أكثر من سيناريو تعود بمجملها لمصلحة الحكومة السورية وعودة المحافظة إلى حضن الوطن.
وإذا كان أقرب هذه السيناريوهات وأسلسها وأقلها تكلفة لا يحتاج سوى إلى قرار من أردوغان يدفع كل المسلحين في المحافظة إلى إعلان رغبتهم بالمصالحة وتسوية أوضاعهم حرصاً على المدنيين الذين تنتشر التنظيمات الإرهابية بينهم وتتخذ الأهالي دروعاً بشرية، فمن المعروف أن أردوغان هو «الحاكم بأمر الله» بالنسبة لتلك التنظيمات وهؤلاء المسلحين، لكن من يزعم نفسه اليوم «سلطاناً عثمانياً» لا يرغب باللجوء إلى هذا الخيار لأن فيه اعتراف بالولاية على التنظيمات الإرهابية وقيادتها ما يضع نظامه على رأس لوائح دعم الإرهاب في العالم ويمكّن سورية من ملاحقته قانونياً لإلزامه بغرامات ربما تكلفة إعادة إعمار ما خربه أولئك الإرهابيون.
لعل أردوغان يدرك جيداً أن هؤلاء الإرهابيين هم ورقته شبه الأخيرة التي يستطيع التلويح بها في ظل حدة الاستقطاب المتصاعدة بين أنقرة وطهران والرياض في صراع قديم جديد على تزعم الشرق الأوسط، ولا شك أيضاً أن أردوغان لا مصلحة له في الابتعاد عن الترويكا الثلاثية الراعية لمسار أستانا حول الأزمة السورية لأن أبعادها تتعدى الأزمة السورية، فابتعاد أنقرة اليوم عن هذه الترويكا التي تجمعها إلى جانب موسكو وطهران، من شأنه أن يعريها في مواجهة الرياض وطهران اللتين تكافحان النفوذ التركي في منظمة التعاون الإسلامي إضافة إلى منافستها على النفوذ في المنطقة، وكذلك تفعل واشنطن من خلال تضييق عواصم الناتو الخناق على تركيا مع رغبة الأخيرة بإجراء صفقات أسلحة مع روسيا، «عدو» الناتو الأول.
وبالعودة إلى نظرية «قلب العالم» للمنظر البريطاني هالفورد جون ماكندر التي ظهرت في مطلع القرن العشرين، وحملت في طياتها أن مفتاح السيطرة على العالم؛ يكمن بالسيطرة على قلبه، والتي يمكن ببساطة إسقاطها على الشرق الأوسط، فإن من يحظ بالنفوذ في سورية والعراق يتحكم بالشرق الأوسط، وهو الأمر الذي نشهد اختلافاً روسيا أميركيا حوله فنلاحظ أن روسيا ترى في غرب سورية قلب الشرق الأوسط في حين ترى أميركا ذلك القلب في العراق وشرق سورية.
ومن هنا تسعى القوى الإقليمية التقليدية كتركيا والسعودية وإيران لمزاحمة القوتين العالميتين على هذه السيطرة، بعدما كانت تركيا حليفاً أميركياً وطهران حليفاً روسياً قبل أن يقلب غزو العراق من الولايات المتحدة الموازين في المنطقة وسعت روسيا لتصحيح هذه الموازين أو العودة إلى المنطقة عبر بوابة الأزمة السورية.
في ضوء القراءة النظرية السابقة نرى اليوم تسعيراً في نيران المواجهة الروسية الأميركية ليس كرمى للسوريين من هذا الطرف أو ذاك، إنما سعياً لترسيخ النفوذ، ومن هنا استبقت الإدارة الأميركية هذه المواجهة بعقوبات على موسكو من جهة وعلى حلفائها الإيرانيين من جهة ثانية، رغبة منها في إضعاف المعسكر المقابل لها، على حين كانت روسيا تقود بنجاح ترويكا أستانا الثلاثية حفاظاً على القوة الإيرانية من جهة ولملء فراغ الغياب الأميركي عن رعاية تركيا دولياً من جهة ثانية.
ليس ذلك فحسب بل انبرت موسكو لمواجهة واشنطن في كل الميادين التي تدور خلافاتهما حولها، فرعى الروس سلسلة اتفاقات اقتصادية بين سورية وجمهورية القرم التي تشكل سوراً جغرافياً مشرفاً على حدود أوكرانيا البحرية بعدما سعت أميركا لنشر درع صاروخية في أوكرانيا على الحدود القريبة من الدب الروسي.
وتدرك تركيا أن مصلحتها مرتبطة بروسيا أكثر من ارتباط مصالح الروس بتركيا فتستغل موقعها الجغرافي وتحكمها بالمضائق الدولية المؤدية إلى البحر الأسود وصولاً إلى الأراضي الروسية، وتستغل أنقرة أيضاً وجودها في الناتو لابتزاز الروس، لكنها تدرك جيداً أن الخروج من تحالفها معهم سيكلفها ثمناً لا بد من دفعه للأميركيين كتراجع عن المواقف السابقة التي أدت لتوتير العلاقة معهم، وأي خروج من التحالف مع روسيا سيعري تركيا منفردة في المنطقة دون حلفاء بعدما خسرت الكثير من حلفائها العرب في ظل دعمها لـ«الربيع العربي» وليس باستطاعة قطر أن تشكل رافعة للدور التركي في المنطقة الذي يحظى بتضييق متصاعد من السعودية، لاسيما أن أميركا تعمل على تشكيل «ناتو عربي» من شأنه مستقبلاً أن يشكل مواجهة إسلامية عسكرية للجيش التركي الذي يعتبر من أقوى جيوش الناتو حالياً.
سبق ذلك مساع أميركية لنشر قوات عربية في شمال شرق سورية، ومن بعد ذلك مؤخراً مساع لإقامة منطقة حظر طيران في منطقة يتواجد فيها الأكراد الذين تعتبرهم أنقرة عدوها الأبرز باعتبارهم المصدر الأول الذي يهدد وحدتها الداخلية.
اليوم يبدو أن خلافاً جوهرياً مع الروس حول إدلب ليس من شأنه إبعاد تركيا عن روسيا بقدر ما سيضعها على محك الخضوع، في ظل استعجال بوتين لتحقيق إنجاز في دعم الجيش السوري لتحرير إدلب أو إطلاق العملية العسكرية ضد جبهة النصرة قبل انعقاد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر الشهر الجاري، ما سيحيل تركيا للموافقة على مقترحات روسية لن تتعدى طمأنة تركيا على عدم حصول موجة نزوح جديدة باتجاهها.
ومن ثم فإن أهمية إدلب اليوم تتعدى تحرير المحافظة، إلى التفاهمات التي يمكن أن تتحقق هناك، وهذه التفاهمات من شأنها أن تكون معياراً لصياغة شبكة العلاقات المستقبلية بين موسكو وأنقرة وكذلك إعادة رسم لخريطة القوة في الشرق الأوسط.
أما واشنطن فلا تعير اهتماماً لإدلب لكنها لا تتجاهل أن القادم بعد إدلب هو مناطق سيطرتها وحلفائها الكرد في شرق سورية وتريد ضمانات لأي تحرك متوقع على هذا الاتجاه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن