قضايا وآراء

لقاء بوتين أردوغان: أيّة إرهاصات؟

| مازن جبور

الفرصة الأخيرة، ربما هي التسمية المناسبة بالنسبة للقمة الروسية التركية التي عقدت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان بخصوص إدلب، وإن كانت كذلك، إلا أنها منحت الجانب التركي نفساً طويلاً في المفاوضات حول الملف السوري، بعد أن مكنته الظروف المحيطة بالقضية الأبرز في الملف السوري والمتمثلة بإدلب من كسب المزيد من الوقت، إذ تشابكت وتعقدت كثيراً القضية في ظل مجموعة المتغيرات المحلية والدولية التي أعقبت قمة طهران التي عقدت في 7 أيلول 2018 بين الدول الضامنة الثلاث: روسيا وتركيا وإيران، والتي وصفت بـ«الفاشلة» في إيجاد حل للقضية المطروحة.
لقد تصاعدت المواقف الدولية والمحلية ما بعد قمة طهران، وظهرت إلى العلن مواقف جديدة لم تكن واضحة بهذا الشكل من ذي قبل، إذ دخلت ألمانيا بقوة على خط ملف إدلب، وعبرت عن طموحات كامنة إستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، في وقت استغلت فيه تركيا الظروف المحيطة بالقضية.
لقد تمثلت الظروف المحيطة بملف إدلب بعملية تصعيد أميركي على هذا الخط، ولعل التصعيد الأهم ما حصل في مدينة الحسكة شرق البلاد من إقدام مجموعة مسلحة تتبع لـ»حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي المدعوم من واشنطن، بالاعتداء على القوات الأمنية السورية في المدينة واستشهد 13 عنصرا من قوى الأمن العسكري السوري، وأكدت هذه الحادثة على حقيقة «أداتية» الكرد بيد واشنطن التي تحركهم في الزمان والمكان المناسبين، بالإضافة إلى أنها مثلت إعاقة لملف الحوار بين دمشق والكرد، والذي ربما أعيد إلى التقييم من جديد من قبل دمشق، وقد يسار إلى تجميده على المدى القريب.
إن حدّة الحدث في شرق البلاد، لا تتأتى من دمويته فحسب، بل لما سبقه من إعلان الكرد لما يسمى «الإدارة الذاتية»، بالتقاطع في الزمان والمكان مع مجريات الوضع حول إدلب وعقب القمة الثلاثية في طهران، ما يوحي أن واشنطن تريد الذهاب بالملف الكردي في ظل «المعمعة» الدائرة حول الشمال إلى نهاياتها، وإن كانت أميركا تدرك أن تقسيم سورية أمر شبه مستحيل سيقاوم من قبل سورية وحلفائها، إلا أنها في الوقت عينه، مصممة على تحقيق أعلى درجات الممكن في هذا الإطار، وقد يكون «ممكن» أميركا بالنسبة لملف كرد سورية، هو ما قاده إليه كرد العراق، أي الوقوف على بعد خطوة من إعلان الانفصال، بغية الإبقاء على الملف ورقة ضغط طويلة الأمد بيد واشنطن، وهي التي استغلت تصاعد الخلافات حول إدلب وصبت زيتا على نارها، لدق إسفين خلاف على خط حوار دمشق وكردها.
وإذا ما أضفنا إلى ما سبق تواصل التصعيد الأميركي بخصوص التهم الموجهة للجيش العربي السوري باستخدام السلاح الكيميائي في إدلب، والتحشيد الغربي لشن عدوان جديد على سورية بذريعته، الأمر الذي أثار قلق موسكو وأخذت التهديدات الغربية على محمل الجد، فحذرت روسيا كلاً من الولايات المتحدة وحلفائها، من «الخطوات الخطيرة الجديدة» في سورية، ولعلها تفادياً لهكذا عدوان غربي، قد أشارت بلغة الحليف إلى دمشق أن تبقي على عملية «فجر إدلب» في إطار الاستهداف الجوي دون الانتقال إلى الاقتحام البري.
استغلت أنقرة الوضع الدولي، ومكن أردوغان من تواجده الاحتلالي في إدلب بإرسال المزيد من التعزيزات العسكرية إلى نقاط المراقبة التي أقامها جيش الاحتلال التركي بذريعة تطبيق اتفاق «تخفيض التصعيد» المنبثق عن مؤتمر أستانا حول سورية، كما واصل التحشيد على الحدود مع سورية، في إظهار للاستعداد لأية تطورات قادمة، ولا بد أن أردوغان حاضر في موسكو ضمن هذه الشروط الجديدة.
بالتزامن مع التحركات العسكرية التركية في الشمال السوري وعلى حدوده، فإن أنقرة راحت تمارس لغة سياسية جديدة قائمة على الدبلوماسية بشكل كبير، إذ تواصل التأكيد على أنها مستعدة للتعاون في مكافحة الإرهاب، دون أن تحدد من هو الإرهاب من وجهة نظرها، وما هو شكل مكافحته، وهل بحله وإرسال قادته إلى سجون ترفيهية تنشئها واشنطن في إدلب؟! وفق تسريبات إعلامية.
الموقف الدولي الجديد البارز بخصوص إدلب، هو الموقف الألماني، ويجب النظر إلى قمة بوتين – أردوغان في سياق موقف برلين، خصوصاً بعد إرجاء قمة رباعية روسية تركية فرنسية ألمانية، بخصوص الشمال السوري، الإرجاء الذي أتى بعد إخفاق لافروف في إقناع نظيره الألماني هايكو ماس بعد نقاشات بينهما في العاصمة الألمانية برلين يوم الجمعة، في عدم ممانعة العملية العسكرية على التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة في إدلب، إذ أكد الوزير الألماني حينها أن برلين ستعارض إطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق في إدلب، وأشار إلى اختلاف موقفي روسيا وألمانيا حيال إعادة إعمار سورية.
ولعل ما صرحت به وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين، من أنه «لا يمكنها أن تستبعد انتشاراً طويل الأمد للقوات الألمانية في الشرق الأوسط»، وما يحيط بذلك من نقاش أوسع نطاقاً عن دور ألمانيا في تحرك عسكري محتمل في سورية، لا ينفك عما تتعرض له برلين من ضغوط من الولايات المتحدة لزيادة إنفاقها الدفاعي وتولي مزيد من المسؤوليات في إطار حلف شمال الأطلسي «الناتو».
إن القمة الرباعية التي تم التطرق إليها سابقاً تثير تساؤلاً يمثل نقطة غامضة، تتمثل بغياب إيران عنها، خصوصاً أنها دولة ضامنة لاتفاقات «أستانا» حول سورية، هذا الغموض ربما يمكن تفسيره باعتبار أن ملف إدلب يمثل هاجساً لأوروبا من نوع آخر يرتبط بالقلق من اللجوء الذي قد ينتج عن أية عملية عسكرية على التنظيمات الإرهابية في المحافظة، هذا اللجوء تمثل تركيا بوابته إلى أوروبا وتمثل روسيا صمام أمان لمنعه بالنسبة لألمانيا التي ستكون وجهة موجة اللجوء السوري الجديد، في حين أن باريس هي من طلب الانضمام إلى هذا الاجتماع الذي دعا إليه أردوغان على هامش قمة بريكس الفائتة.
من البديهي أن الخيار بالنسبة للشمال هو الحل، ومن البديهي أكثر أن الحل إما سياسي وإما عسكري وقد يكون مختلطاً في شق منه عسكري يتمثل بحملة عسكرية للقضاء على الإرهاب، وفي شق آخر سياسي من قبيل التسويات والمصالحات مع التنظيمات المسلحة المتواجدة في إدلب، إلا أن من سيحكم شكل هذا الحل هو مدى الرغبة المقرونة بالقدرة لدى كل طرف، سورية وحلفائها، أو الغرب وتركيا، على تحمل المسؤوليات والتحديات التي تمثل أمام شكل الحل المتخذ، وهو ما قد يفسر شكل الحل الذي اتخذ بالأمس المسمى اتفاق سوتشي، ويوحي باللجوء الروسي إلى تفكيك ملف الشمال كل جزئية بجزئيتها.
من الممكن أن بوتين كان في اجتماعه بأردوغان هذه المرة أكثر وضوحاً وصراحة وأثار معه ملفات أكثر حساسية وتعقيداً وأكثر إستراتيجية خصوصاً أنها كانت جلسة رجل لرجل وحملت الكثير من المحفزات التي ترتبط بالعلاقات الثنائية على مستويات اقتصادية وجيوسياسية أبعد من إدلب، ومن الشرق الأوسط، وبما يمتد إلى أوراسيا عموماً.
تظهر نتائج القمة والحل الذي لجأ إليه بوتين، أن الرئيس الروسي حاول على الأقل الخروج بنوع من الود من اجتماعه مع أردوغان، وإجراء نوع من المصالحة بعد السجال الذي حدث بينهما في قمة طهران، إذ أن بوتين ينظر إلى القمة الرباعية القادمة بمنظور مختلف، ولا يريد الدخول إليها والخروج منها بخلافات حادة مع برلين وباريس بعد التقارب الذي حصل في الآونة الأخيرة بينهما وبين موسكو.
إن الموقف الغربي حيال العملية العسكرية على إدلب نابع بالدرجة الأولى من خشية أوروبية ألمانية على وجه التحديد من موجة لجوء سورية جديدة، وبالدرجة الثانية من رغبة أوروبية في مسايرة أميركا في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الموقف من الملف النووي الإيراني المتعارض مع موقف واشنطن، وهو ما قد يفسر غياب إيران عن القمة الرباعية.
مهما تكن الإرهاصات التي رافقت اجتماع بوتين أردوغان، فإنها لن تحيد ببوتين عن هدف أساسي، تتمثل به مصلحة سورية وحلفائها روسيا وإيران، بالحفاظ على وحدة واستقلال وسيادة سورية، وهو ما يتطلب إنهاء أي تواجد إرهابي في الأراضي السورية، وإنهاء أي تواجد غير شرعي لدولة أخرى، وعودة الأمن والاستقرار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن