قضايا وآراء

صبرا وشاتيلا جريمة إبادة بشرية أميركية إسرائيلية

| د. يوسف جاد الحق

اسمان ما إن يخطرا بالبال، أو يطرقا السمع، حتى تتأجج في النفس مشاعر متباينة، تراوح بين فيض من الحزن والألم يدمي القلب لما حلَّ بالأهل هناك، وما بين فيض آخر من الغضب والنقمة على الجناة من عتاة الإرهاب الصهيوني وسدنة الإجرام الأميركي.
تلك كانت صبرا وشاتيلا، واحدة من أفظع الجرائم التي شهدها عصرنا البائس على أيدي الصهاينة، ومن والاهم من عرب وعجم، فرنجة الغرب، أعداء أمتنا الدائمين، المتربصين بها الدوائر على مر الزمن.
مهما كتب عن تلك الجريمة الرهيبة الموجعة، ومهما قيل فيها فسوف يظل ذلك كله قاصراً عن إيفائها ما تستحقه من العمل لمعاقبة الجناة، على جريمة ندر مثيلها في تاريخ البشر المعاصر. إضافة إلى السعي لملاحقة مرتكبيها، كيما ينالوا جزاء ما اقترفت أيديهم، طال الزمن أم قصر.
في تلك الليلة الليلاء من يوم السادس عشر من أيلول عام 1982 كان أهل المخيمين يعيشون ليلهم المعتاد، كما ألفوه من قبل في ظلال شقوة اللجوء وهمّ الاغتراب، ولم يخطر ببال أي منهم أن الساعات القليلة الباقية على مطلع الفجر سوف تحمل لهم هول الجحيم الدامي الآتي، ومعه المصير الذي سوف يلقونه، من قتل وذبح وتكسير للجماجم، وبقر لبطون الحوامل وسحل للأحياء والأموات في أزقة المخيم، التي أمست بحراً من الدماء، وقذفٍ لأطفال رضَّع كالرياحين، بقسوة تأباها الوحوش الضارية.
تواطأ يومئذٍ السفاح الأشهر المدعو أرئيل شارون مع جماعة تدَّعي انتماءها للعرب لاقتراف الجريمة الفاجرة، تعاون أولئك ومعهم «الجنرال..!» رفائيل إيتان الذي أصبح وزيراً فيما بعد في كيان الشر والعدوان والجريمة، على سدّ المنافذ والمداخل للمخيمين، لكيلا ينجو من أهلهما أحد. أحيط المخيمان من سائر جهاتهما بالدبابات والمدافع والجنود وميليشيات جماعة لبنانية، وانطلقت في الفضاء قنابل تضيء الأرض ومن عليها هناك، وتحيل الليل إلى نهار باهر كيما يقوم الجناة «بعملهم» في يسر وإتقان، ولتمكنهم من البحث في الزوايا والأزقة والزواريب، عن الكائن الفلسطيني بغية القضاء عليه حيثما كان.
كان لهم ما أرادوا فقضوا على نحو خمسة آلاف من الفلسطينيين، هم جلُّ سكان المخيم، حتى إن زهاء خمسمئة منهم حاولوا الفرار أثناء عمليات الإبادة تلك، غير أن الزبانية كانت لهم بالمرصاد عند البوابات، فأعادتهم تحت وابل من الرصاص لكي يلقوا مصارعهم مع الآخرين من ذويهم.
حسبت يومئذٍ بسبب من سذاجتي المفرطة ربما، أن هذه المجزرة سوف يكون من شأنها كشف حقيقة الصهاينة هؤلاء للعالم كله، قلت في نفسي لا بد أن ذلك العالم، ممثلاً بهيأته الدولية سوف ينقلب عليهم الآن ويحلُّ بهم أشد العقاب، ولسوف يضرب أيضاً عرض الحائط بكل ما زعموا وما روّجوا وأشاعوا عما حلّ بهم على أيدي النازيين في الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة خمسين مليوناً من البشر غير اليهود، ولكن اليهود وحدهم حظوا بتقديس قتلاهم الأقل تحت عنوان ما أسموه «الهولوكوست» الذي استغلوه وما برحوا يستغلونه أيما استغلال، حتى يومنا هذا، بابتزازهم لألمانيا وسائر الغرب مالاً ونفوذاً، فضلاً عن الجانب المعنوي والقيمة الأسطورية التي أضفوها على تلك الحكاية المرسومة بإتقان خادع بارع.
على أي حال، وعذراً عن الاستطراد، قلت يومئذ إن هذا الذي جرى في صبرا وشاتيلا هو «هولوكوست» ولكن على الفلسطينيين، حقيقي مشهود، ولاسيما أن أدوات تواصل هذا العصر ووسائله تطلع الناس على مجريات الأحداث في أي مكان على ظهر الأرض. ليس العالم إذاً بحاجة لتخرصات وتمحيصات وأكاذيب وأضاليل ومزاعم كما هو الحال في مسألة «هولوكوستهم».
غير أن ما أثار ذهولي ودهشتي وخيبة ظنوني أيضاً، هو أن شيئاً مما توقعت، كما توقع غيري، لم يحدث. لبث العالم صامتاً وكأن شيئاً لم يحدث بالفعل، والأدهى من ذلك أن العالم ما انفك يمالئهم ويوفر لهم الوسائل والإمكانات لمواصلة جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، بتمويلهم بالسلاح والمال والدعم في المحافل الدولية المتواطئة. لكأن الفلسطينيين التعساء لم يكفهم اغتصاب أرضهم، وتشردهم عن ديارهم وسرقة تاريخهم وتراثهم، فضلاً عن حياتهم نفسها.
ثم جاءت «قانا 1» و«قانا 2» وقبلهما وبعدهما مسلسل عدوان يومي لا ينقطع على قطاع غزة، واعتقالات ومصادرات للمنازل في الضفة، فضلاً عما يعمل عليه من توطئة لهدم المسجد الأقصى. ولا ننسى كذلك مأساة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1993 على يد المجرم الأفاق روبنشتاين الذي قتل المصلين عند الفجر. ثم جاءت الحروب الكبيرة في جنوب لبنان وغزة. جرائم العدو، باختصار، لا سبيل إلى إحصائها.
لقد مارس العدو اعتداءاته وحروبه على الفلسطينيين والعرب مطمئناً إلى حماية المظلة الأميركية، بحيث يمضي إلى كل ذلك وهو آمن لا يخشى عقاباً أو ينتظره، أو حتى مجرد استنكار أو إدانة من أي جهة كانت، ما دامت جرائمه تحظى بالتغطية على أنها «دفاع عن النفس»!
لا ينبغي أن يغيب عن البال أن شريك الكيان الصهيوني في سائر ممارساته هو أميركا سيدة «العالم الحر»، والمنافحة عن حقوق الإنسان، والإنسان المعني هنا هو إنسان الغرب واليهودية العالمية فقط. أما الإنسان الفلسطيني، والعربي أيضاً، فما هو سوى «جوييم» يحلُّ قتله واغتصاب ماله وسرقة أرضه بل هو غير جدير بالبقاء على قيد الحياة، وفق مقولة السيئة الذكر رئيسة وزراء الكيان الصهيوني في حينه جولدا مائير بأن «العربي الجيد هو العربي الميت»!
فلنحاول أن نضغط على الجراح لكي تكون هذه الذكرى المفعمة بالآلام والأحزان، حافزاً للتصميم على مواصلة قتال العدو ومناجزته، فهو لا يفهم غير لغة القوة، وصولاً إلى إنجاز عملية التحرير لأرضنا المقدسة، وتطهيرها من رجس الصهيونية وأوضارها، مرة واحدة وإلى الأبد.
بهذا وحده تتحقق «العودة» ويعم السلام «العادل الشامل» بحق، وليس بمتابعة ذلك العبث المقيت، لعبة المفاوضات والمداورات والمناورات التي لم تورث الشعب الفلسطيني والوطن الفلسطيني، غير الدمار والبوار على مدى السنين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن