ثقافة وفن

وماذا بعد؟!

| إسماعيل مروة

إن أي حدث في المجتمع مهما كان صغيراً أو كبيراً، تترتب عنه نتائج إيجابية أو سلبية، ولا يستطيع أحد أن يحدد نوعيتها قبل حصولها والوصول إلى الغايات والنتائج، وما قد يظنه المرء إيجاباً لو حصل فسيكتشف أنه في صلب الخطأ، وربما وصل حد الخطيئة! وأي حدث في طريقه قد تعترضه أشياء وعقبات تغيّر من مساره وسيرورته، وأطرف وأغرب ما في الأمر أن هذه المعترضات تأكل أول ما تأكل أصحابها، ولا أحد ممن قرأ التاريخ يخفى عنه كيف أكلت الثورة الفرنسية من قام بها، وبطرائق فظيعة، ولن يغيب عن القارئ والناقد ما حصل في الثورة العربية الكبرى حين قامت هذه الثورة، فتوافق العرب على الخلاص من العثمانيين الأتراك مع الغرب، فكانت النتيجة خروج العثمانيين وانتهاء الثورة، وتشظي من قام بهذه الثورة التي تغنى بها الشاعر فؤاد الخطيب وغيره من الشعراء، وفي الذاكرة الكيفية التي تمّ فيها إجهاض الفكرة العربية، والتخلص ممن قام بها، وممن قادها، فانتهى الشريف حسين، وتوزعت أسرته، وضاع أولاده بطرائق عديدة في غمرة البحث عن ملك ومملكة، حتى الذين شاركوا من المتنورين تمّ الخلاص منهم وصولاً إلى عبد الرحمن الشهبندر وغيره من المناضلين الأفذاذ، وفي طريقها جرفت الأحداث المتسارعة الأتراك ومن نادى بوحدة وهمية مع الأتراك!
وفي حمأة البحث عن الأفكار الثورية والقومية بعد الخلاص من الاستعمار الغربي في بلدان عربية رائدة كما في سورية، بدأت حركات من نوع آخر، وهي حركات النزوع إلى السلطة والسيطرة، ولا تغيب عن الذهن أول قصة قرأتها للأديب الراحل عبد السلام العجيلي (الخائن) هذه القصة التي تصور المفاهيم وتبدلها وتغيرها بين لحظة وأخرى، وكيف استطاع أصدقاء المناضل أن يشيطنوه، وأن يحولوه إلى رمز خائن يستحق القتل لأنه خان الثورة كما يزعم أصدقاؤه! فما مفهوم الثورة؟ وما مفهوم الخيانة؟
والأمر ليس روائياً أو متخيلاً كما قد يتهيأ، وإنما هو حقيقة واقعة، فكما التهمت الثورة الفرنسية رموزها في مواجهة الباستيل وعرش الملك، وكما التهمت الأطماع الغربية الثورة العربية الكبرى وغاياتها، كذلك عندما نقرأ سيرة كفاح الشعب السوري في مواجهة المستعمر الفرنسي، فإن أسماء وطنية مخلصة كثيرة يرد ذكرها، وهي غاية في الأهمية، وذات دور ريادي ثوري، لكنها غابت أو غيّبت، والقلة القليلة بقيت على قيد الحياة، ولكن كيف بقيت؟
إن الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش لم تكن لولا التآزر والدعم، وحين نقرأ تلك الحقبة نعرف أن الذين في المنفى أدوا أدواراً مهمة، ومن هؤلاء الشاعر الذي حكم عليه المستعمر الفرنسي بالإعدام مرتين، خير الدين الزركلي، وقد أدى أدواراً مهمة في الدعم وحفظ الأرواح والأعراض للثوار، ولم يكن ليهدأ في لحظة، والأخبار التي تربط بينه وبين شكري القوتلي كثيرة، فقد كان ملازماً ورفيقاً في كل حركة للوصول إلى الاستقلال.. وحين حدث الاستقلال كان القوتلي رئيساً، ولم يكن الزركلي بين الذين عادوا إلى سورية للإسهام في مرحلة ما بعد رحيل الفرنسي، وهو من هو في الثورة وعند القوتلي؟
الزركلي الذي لو مثلوا له موطنه وثناً لهمّ أن يعبده، والزركلي الذي دمه دم دمشق وأهلها، وشعاره شعار وادي النيربين هل يمكن أن يرغب بالاغتراب والابتعاد؟ هل هو من سعى للبقاء خارج سورية ودمشق؟ حاولت كثيراً أن أعرف الأسباب التي أبقت الزركلي بعيداً ومنفياً، يعاني الغربة حتى رحيله في السبعينيات من القرن العشرين ودفنه في مصر فلم أعثر على سبب، وكأن الزركلي شخص عادي لا تاريخ له في النضال والشعر والتصنيف!
قرأت حواراً مهماً ومؤلماً وشائقاً عالياً أجرته الأستاذة الدكتورة نجاح العطار مع خير الدين الزركلي، وأشارت إلى أنه أجري في بيروت، وهذا الحديث يعد الوثيقة الأكثر أهمية للزركلي وعلاقته بالوطن، ولم أعرف السبب الذي يجعل قامة مثل الزركلي تؤثر الحديث في بيروت لا دمشق، ولأن من حاوره الدكتورة العطار، وهي من هي في الأدب والثقافة والسياسة، فهذا يعني أنه ليس في أمره ما يمنع من حواره ونقاشه وتسجيل آرائه للأيام، وحين جادت الأيام بلقاء مع عبد الله بك الخاني العالم الجليل والحقوقي والسياسي والدبلوماسي، سألته مرات عن الأسباب التي منعت الزركلي من العودة، وهو اللصيق بالرئيس القوتلي، فلم أجد لديه جواباً، وبطريقة إيجابية كان حديثه، وأكد أنه لم يقف عند هذا الأمر، ولم يسترع انتباهه أي حديث عنه!
وضاع شاعر مناضل وصوت سوري، اختار المنفى أو اختير له، بكى دمشق بحرقة كبيرة، تشهّى أن يسجد للوطن لو كان بالإمكان، فبخل عليه الوطن بقبر صغير في تربته التي تعشقها سواء كانت في باب الصغير أم في ذي الكفل، ووجد في تربة القاهرة حضناً دافئاً بعد رحلة مريرة..!
كم من الأحداث تمر على أحدنا ولا يدري خاتمتها؟
كم من الأمور التي تجري، ويتوقع واحدنا أنه يملك مفاتيحها ليكتشف أنه لا يملك شيئاً، وأن كل شيء مرهون بالقدر الذي يرسمه الأقوياء، ولا علاقة له به، وإن حمل علبة ألوان وأوراقاً وخريطة لوطن، لكن لا الألوان تظهر، ولا الورق يستوعب عواطفه، ولا الخريطة بين يديه؟
تأتي الأفكار وتذهب، نمضي من أعمارنا أغلبها ونحن نتغنى..! تضيع الأفكار، ويبقى الوطن، والمواطن المشظى ما بين تربة وتربة، ما بين حب وعاطفة، يبقى الإنسان رهيناً لعواطفه، لا تسمح له نفسه بالابتعاد عن موطنه، ولا يسمح له موطنه أن يمارس عشقه، ويقتله التشظي أحياناً، وهو يمارس كذبة إيديولوجية كبرى تحاول الفصل بين سلطة ووطن، وبين مسؤول ومؤسسات، وبين نظرية وممارسة، فلا هو يحقق شيئاً، ولا الآخر يطوله أي مكروه، والرهان على الزمن خسارة مطلقة للوطن والإنسان!
كم من خير الدين الزركلي في حياتنا؟
كم من واحد منا قرأ خيباته، فأوجد حلوله الخاصة، ورأى أن يصل إلى خصوصيته بذاته، وعندما وصل إليها شُتم كثيراً، ونُعت بأقسى الأوصاف والألفاظ، فهذا ضعيف، وذاك مصلحي، وثالث انهزامي، وآخر متقوقع، وخامس متشاوف، وسادس تافه، وهكذا.. وتدور المطحنة الزمن لتنهي هذا، وتقتل حلم ذاك، ويقف إبراهيم منتظراً حكم أهله عليه، النار تتوهج بشكل مرعب، والحطب يغطي المكان، كلما خفت النار دفع إليها الحطب، وأبو إبراهيم يشفق ولا حيلة له، والبيت العتيق يستصرخ، ولا أحد يسمع صراخه الذي يغطي على كل شيء، والنمرود يقهقه بصوت مرتفع للغاية!
هو القوة.. وقد تحمل القوة مسميات كثيرة
لكنه النمرود الذي لا يقبل شريكاً للقوة
يدفع إبراهيم إلى النار
ويحمّس إبراهيم لذبح إسماعيل الولد
يزين له الفعل بكسب رضا الرب والكبش العظيم
نغني للذبح والافتداء، ونردد سيرة البرد والسلام
ونضع نهاية للنمرود في مخيلاتنا
كلاهما عاش حياته.. كلاهما رحل
وشتان ما بين سعادة وقوة.. وضعف واستكانة..!
وتستمر الحكاية.. حكاية إبراهيم والنمرود
حكاية القوة والضعف
ولكن ثواب المظلوم في آخرة.. في يوم غير معلوم!
وإن لم تصدقوا فاسألوا مشايخنا لديهم كل المواعيد والأقدار.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن