قضايا وآراء

إدلب لن تكون برلين.. إدلب ستتحرر

| يونس أحمد أخرس

يوحي احتدام الصراع على إدلب بالصراع على برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية بين السوفييت والأميركيين، فكما اختصر الصراع على برلين كل مستويات الحرب الباردة بين الغرب والشرق، يختزل الصراع على إدلب كل ديناميات الحرب العالمية على سورية خلال كل مراحلها السابقة، حيث تتقدم نتائج الصراع على إدلب في أهميتها وانعكاساتها الإقليمية والدولية لتعادل تبعات الصراع على برلين وتبعاتها على توازنات القوى الدولية وسط أوروبا.
وأيضاً كما فشلت المفاوضات بين الأطراف المتصارعة حول برلين، فشلت المفاوضات حول إدلب في طهران، إلا أن هذا الفشل لن يقود إلى تقسيم إدلب، كما حدث في برلين، وذلك بسبب عدة تباينات بين الحدثين، أولها أن أطراف المفاوضات في أزمة برلين كانوا شركاء وحلفاء في الانتصار على النازية، إلا أن مفاوضات طهران حول إدلب هي في حقيقتها بين طرف انتصر في حربه على الإرهاب ويتمثل بسورية وروسيا وإيران، وطرف آخر مهزوم وهي تركيا بما تمثله لمجموعة الدول التي دعمت الإرهاب والإرهابيين في حربهم على سورية.
ومن أهم التباينات أيضاً بين الحدثين هي طبيعة العلاقات الدولية، ففي حين وقعت أزمة برلين في ظل علاقات دولية تقوم على العداء وعدم الثقة والتوتر الشديد والصراع الإيديولوجي بين الغرب والشرق، فإن مشكلة إدلب تتفاعل في إطار تحول عميق في طبيعة العلاقات الدولية يستند إلى تبني الولايات المتحدة إستراتيجية الشراكة والتنسيق والتعاون مع روسيا بعد التوسع الكبير في مصالح واشنطن، وإدراكها عدم قدرتها على حماية مصالحها في العقد الثاني من المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، كما تبلور هذا التحول في السياسة الأميركية تجاه روسيا نتيجة استعادة هذه الأخيرة لموقعها كدولة عظمى.
وقد تبلورت في إطار هذا التحول علاقات تقوم على حدي التنافس والشراكة أي التنافس على أساس الشراكة بين الولايات المتحدة وروسيا، فإذا كان التنافس، أحد حدي هذه العلاقة، دفع روسيا إلى التدخل عسكرياً في سورية وانفرادها بقيادة الحل لهذه الأزمة، فإن الحد الآخر أي الشراكة، ألزم روسيا بأمن إسرائيل، وهو أمر أقرَّ به الرئيس فلاديمير بوتين خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قمة هلسنكي. حيث تشكل إدلب آخر معاقل المسلحين في سورية، وآخر ساحة للمواجهة غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة التي تتخوف من نتائج انتصار سورية وحليفتها روسيا على مصالحها في الشرق الأوسط، لذلك تجد الولايات المتحدة أنها الفرصة الأخيرة للدول الغربية لممارسة الضغوط على الدولة السورية وحلفائها كي تنتزع الحل السياسي باعتبار أن هذا الحل سيحدد شكل الدولة السورية ودورها الإقليمي وهويتها السياسية، لذلك عاد المسؤولون الأميركيون والأوروبيون في تصريحاتهم إلى شعارات المربع الأول للأزمة السورية، بما فيها التهديد بتوجيه ضربات عسكرية ضد سورية بحجة كذبة استخدام الكيميائي لتبرير استخدام القوة العسكرية.
أما تركيا المهزومة في سورية، فقد تطابقت رؤيتها لمعركة إدلب ونتائجها الإقليمية مع رؤية الأميركيين والأوروبيين، وعلا صراخها ومواقفها التصعيدية رفضاً لاستعادة الدولة السورية لإدلب باعتباره سيؤدي إلى القضاء على الفصائل الإرهابية المسلحة الموالية لأنقرة، ويحرمها من آخر الأوراق التي تمكنها من التفاوض والضغط بخصوص موضوع الكرد.
إلا أن روسيا كما استوعبت تركيا بعد هزيمتها في معركة حلب من خلال مشاركتها في مؤتمر أستانا، وما تبعه من تنازلات من قبل أردوغان عبر تفاهمات مناطق خفض التصعيد، استطاعت مرة أخرى استيعاب الجنون التركي بخصوص مشكلة إدلب باتفاق عسكري شكل في مضمونه مقايضة حصل خلالها أردوغان على مهلة زمنية محددة يأمل من خلالها إقناع مقاتلي المجموعات الإرهابية المسلحة بإلقاء السلاح بما يمكنه من نعتهم بالمسلحين المعتدلين، ليستمر استثمارهم في الحل السياسي للأزمة السورية كأداة عثمانية بيد أردوغان. لكن تركيا لم تستطع أن تحقق أي من أهدافها في ذروة اندفاعها في مشروعها الإخواني العثماني في سورية على مدى عدة سنوات حتى تستطيع خلال هذه المهلة تغيير مجرى الأحداث بما يحقق لها بعض المكاسب على صعيد الحل السياسي، أو خلق واقع جديد في إدلب يبقي جزءاً منها خارج السيادة السورية.
فإدلب لن تكون كـ«برلين» فهي ستتحرر لا محالة لسببين رئيسيين: أولهما أنه قرار وطني للدولة السورية بتحرير كل أراضيها من الإرهاب والوجود العسكري لداعميه، وثانيهما أن النفوذ والدور الروسي في المنطقة يستند بشكل أساسي إلى بسط سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها، فالجبهة الجنوبية على الرغم من تقاطعها مع التزام روسيا بأمن حدود إسرائيل، أصرت كما الدولة السورية على استعادة كامل المنطقة الجنوبية حتى خط وقف إطلاق النار في الجولان، فكيف في إدلب، ذلك أن بقاء أجزاء من سورية خارج سيادة دولتها سيؤدي في المستقبل إلى تصدع النفوذ الروسي وتراجعه في المنطقة، وهذا ما لن تسمح به روسيا، الدولة العظمى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن