ثقافة وفن

أمام صروح الحضارة… والتاريخ

نصر الدين البحرة : 

-1-
قال لي الرجل، وقد بدت في وجهه معالم الفرح والزهو:
• كانت هذه غير رحلاتي وأسفاري جميعاً.
وقد تساءلت في سري طويلاً هناك، كيف حدث أن تأخرت كل هذا الوقت، قبل أن أضع قدمي في أرض الفردوس المفقود؟!
وكانت هواية صديقي القديمة، منذ أكثر من ربع قرن، هي السفر والانتقال من ديار إلى أخرى في بلاد الله الواسعة.. وأكاد أقول: إنه طاف خلال ذلك، نصف الكرة الأرضية على الأقل، وأقول أيضاً: إن إحدى متع العمر عندي، هي أن أجلس إليه، إثر عودته من كل رحلة، كي أصغي إليه يحدثني عما شاهد وسمع.
ولعل ما يضفي على حديثه نكهة خاصة، تجعله أجمل وأطلى، أنه يسقط الكثير من إمكانات الإبداع الفني الدفين في نفسه، ذاك أنه مارس الكتابة زمناً، ثم صرفته عنها شؤون العيش والحياة، فإذا هو يمارسها بين وقت وآخر، عبر ملاحظة يسوقها حول سلوك إنسان، أو لحظة يمضيها في وصف موطن، أو حادثة أو موقف.. وهكذا.
ومضى الرجل يقول: في اندفاع وحماسة:
• هناك شيء آخر، غير تنظيم رحلتنا المدهش، وغير حديث الدليل الذكي المثقف مرهف المشاعر، الذي رافقنا طوال سبعة أيام… فلم نمل من صحبته.. ولم نلق ما يخدشنا من سلوكه وثمة شيء آخر.. شعور لم يطف في نفسي، في أي جولة أو سفرة.. طوال العمر.

-2-
تشعر أنك ههنا، في بلاد عاش أهلك فيها زمناً، وحيثما تلفت شممت رائحة، تشعر أنها ليست غريبة.. أو بعيدة عنك: شميم بستان في الغوطة، أو نفح حديقة من الشام، طراز البناء نفسه.. فسحة الدار، النور والضوء، رحابة المكان، الزروع ونباتات الزينة والأزهار، الروح التي تشمل المكان كله وتهيمن عليه.
هذه هي الشوارع نفسها التي خطا عليها أهلنا، وتلك الجدران التي تحسست بصمات أناملهم، وها هو ذا مزاجهم، يتواصل عبر القرون، في الناس الذين أتوا من بعدهم، ومن يدري، أين يمشي الدم العربي، في أي العروق تغلي دماء الأجداد ومشاعرهم؟
الدليل نفسه رافقنا في تجوالنا، في غرناطة وإشبيلية وقرطبة، وكان يتحدث في حمية ونخوة، ومعنا في المجموعة، وقد انطلقت أصلاً من ألمانيا، أطباء ومهندسون وأساتذة جامعة.
قال الدليل بالألمانية: إني لأشعر بشيء من السعادة أن لي أصلاً عربياً مهما يكن طفيفاً.
ابتسمت في نشوة وبهجة، فقد كنا، نحن الثلاثة، وحدنا عرباً في المجموعة الألمانية التي تعد أكثر من أربعين سائحاً، إذاً، فإن ملاحظة الدليل لا يمكن أن تكون ضرباً من المجاملة أو الملاطفة… وإلا، كان الألمان وهم أكثرية في المجموعة السياحية، أجدر بها.
وانحنى الدليل يشير إلى تمثال نصفي قائلاً: هل تعرفون من هذا؟ إنه الطبيب العربي العظيم «محمد الغافقي»، والإنسانية كلها مدينة له بالفضل، فإنه هو أول من أجرى مداخلة جراحية لإزالة «الماء الأزرق» من العين، وكانت آلته الأساسية في أثناء العملية حسكة سمكة، وهو نفسه أول من أجرى تجارب في سبيل استخدام العدسات الطبية، لتصحيح أخطاء النظر.

-3-
واستطرد محدثي قائلاً: ويبدو أن أحد أفراد المجموعة، وقد لاحظ اندفاع الدليل في حديث مثقف عن الحضارة العربية في الأندلس، وإبداع العرب هناك في مختلف مجالات الفكر والعلم والفن، عراه شيء من الضيق فقال:
• ألاحظ أيها الصديق أنك تتعصب للعرب..
من دون أن يهتز إدوار- وهذا هو اسم الدليل- أو يرف له جفن، قال:
• أنت على حق.. ولكن هذه هي الحقيقة ويجب أن يتعصب الإنسان للحقيقة.

-4-
ورشف صديقي قليلاً من كأس الشاي وعاد يقول:
• هناك خطان للرحلات السياحية في إسبانيا، الأول يتجه نحو المواقع السياحية في مدريد والجزر المشهورة بجمالها وهدوئها… والثاني ينطلق نحو مواقع التاريخ والحضارة.. غرناطة، قرطبة.. وإشبيلية.. وسواها من مدن الأندلس، ألا يكفينا ذلك شرفاً وفخراً؟! ماذا.. أستطيع أن أقول لك؟ إنني طوفت في جزء كبير من أرجاء المعمورة، ولكن هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها، وأنا في الأندلس، بعظمة أن أكون عربياً.
… وانصرف صديقي يراجع ذكرياته الحميمة وهو يتصفح كتاباً مصوراً عن الحمراء، لكن نظراته، كانت تشي بشروده وتفضح رحلة الأسرار التاريخية التي تماهت خواطره معها… ومن يدري فربما كان مثلي يتذكر عبارة الكاتب الفرنسي الكبير أناتول فرانس:
«إن أشد اللحظات ظلاماً في تاريخ أوروبا، هي تلك التي تراجعت فيها جحافل التقدم العربي، أمام الهمجية «الفرنكية» في «بواتييه»..».

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن