ثقافة وفن

وقدم مهراً غالياً لـ«ليل حبيبة..»..يا ولدي كسرت ظهري برحيلك.. بعد أن كبرت يا عاشق الشام

شمس الدين العجلاني : 

ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، يُغّيرُ الله من حالٍ إلى حالِ..! ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها غدا الحزن جزءاً مني بل غدوت للحزن رفيقاً وعاشقاً، والخنساء بكل حزنها أضحت بعضاً مني..
ما من ياسمينة في الشام إلا بكت.. وغفت تلثم جبهة الشهيد..
ما من طفل في الشام إلا بكى…
ما من امرأة ورجل في الشام إلا بكوا..
ما من صبية ووردة وفلة إلا بكت حزناً على فراقك..
فهل بعد هذا يا ولدي أستعيدُ بعضاً مني… وهل يشفي البكاء غليلاً..
كان ولدي:
منذ يوم 8 آذار عام 1981 م إلى يوم 27 تموز عام 2015 كان ثائر ابني، وأصبح ابن الوطن وابن الشام وابن الناس جميعاً، يتحدثون عنه، ويبكونه، ويحزنون عليه، ويفرحون ويزلغطون لأنه شهيد…
ولكن لا سبيلَ للهرب من مصاب أصاب العقل والفكر والقلب….
منذ 27 تموز عام 2015 م والأخبار تغتالني.. الصور تبكيني.. رنات الهاتف تزيد جنوني جنوناً..
أريدُ الصراخ حتى تمزق حبالي الصوتية…
أريدُ البكاءَ حتى تجف مقلتي…
أريد صمتاً يخيمُ على قَلبي…
أريد صمتاً يُعلمني كيفَ أصرخُ من دون أن يَسمعني أحد..
آه يا بني لا أحد مثلك: ملأت الدنيا وشغلت الناس وكسرت ظهر أبيك..
وجعلتني أصرخ وأبكي وأضحك مثل المجانين، وأرى كل الوجوه والعيون من حجر، فكيف يا ولدي أقاوم ما فعل بي الزمن وأصبحت أضعف من كل الأيام والحوادث والوقائع فلا سيف لي ولا جعبة ولا ترس وكل ما أعلم أن موتك كذب وعزاءك عرس وأن أهل الشام زفوك عريساً لأعالي السماء.. لا أريد أن أصدق رحيلك وكل الأكاليل على ضريحك كذب بكذب…
أمسح دموعي بكفيَّ وساعديَّ، وأدمدم في عتمة الليل آه يا ولدي لو كنت تدري كيف حرقة الوالد على ولده، وكيف تنساب دموع أمك في النهار أكثر من الليل، وفي الليل أكثر من النهار..
ليتك ترى كيف «تشمشم أمك ملابسك» لتتعطر من بقايا رائحتك..
أخذت عمري، وجعلتني أكبر ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها مئة عام وعام..
فكيف أغدو للعشق متيماً بعد أن جعلت عشقي للحزن هو الأولى..
هل سأخرج أنا من حزنك إلى حزنك، ويطبق الصمت علي، إنني أرى الموت والقهر والبأس يهاجمني من كل صوب..
يا ولدي كسرت ظهري برحيلك والله هو الشاهد…
الصبية التي عشقها ولدي:
أتذكر يا ثائر، كلما قلت لك يا ولدي، تقول لي لم أعد ولد فقد كبرت وأصبح لدي ولد وولد..
وكنت أردد على مسامعك « لو صار لديك عشيرة أولاد فستبقى ولدي الصغير ولن تكبر أو تهرم، فتضحك وتردد كلماتك في الحب الأبوي..
يا ولدي هل تسمعني الآن في هذا الصباح، ألست أنت من الأحياء: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ).
يا ولدي يهديك أهل الشام صباحات الورد، يا ورد العمر بطهره ونبضاته، صباحك يا ولدي خير، وأنت الخير والصدق والعشق للوطن، أنت الخير يا ولدي الذي كتب بالدم الطاهر النقي أروع قصيده عشق لأروع امرأة في الدنيا، أروع امرأة عرفها التاريخ.. صبية تنام هادئة على سفوح قاسيون.. صبية ضمت بين ذراعيها بولص الرسول وحمته وأرسلته للعالم أجمع يدق ناقوس السلام والمحبة.. صبية نثرت ياسمينها من أحيائها وزواريبها إلى قرطبة وغرناطة، صبية بلون قوس القزح، مصنوعة من الفل والياسمين وضوء القمر، صبية عمرها أكثر من سبعه آلاف عام ولم تزل بعمر الورد والفل والياسمين، صبيه لها ألف اسم واسم، فهي تيماسك وتيماشكي ودا ماش قا ودارميسك ورأس بلاد آرام وبيت رمون وألعازر وديمترياس وحاضرة الروم والتين وفسطاط المسلمين والعذراء والفيحاء وجلق وذات العماد ونعمان والمسرة وحصن جيرون وعين الشرق وباب الكعبة وجنة الأرض والياسمين، وقصبة الشام والشام وشام شريف وحصن الشام.. هي مدينة ليست ككل المدن، عاصمة ليست ككل العواصم، حاضرة دائماً في الوجدان العربي، مدينة الأسطورة والسحر والخيال، مدينة العلم والدين والدنيا، مدينة لم يزل خالد بن الوليد يقف أمام بابها الشرقي يستقبل عشاقها وينثر الياسمين في فضائها، ويوحنا المعمدان «النبي يحيى» يطل من مئذنة العروس ليشع نوراً وبركة على مسيحييها ومسلميها، وصلاح الدين يشهر سيفه بوجه الطامعين والمغرضين ويصرخ بأعلى صوته قف باحترام.
هي دمشق حيث يرقد الأتقياء الأنقياء آل البيت والفلاسفة والشعراء والعلماء هي صفوة الله ورسوله، المدينة التي تبسط ملائكة الله أجنحتها عليها.. هي الوردة والفلة والياسمين.. هي صبية تدفع ضريبة العزة والكرامة عن كل العرب.. هي دمشق الشام التي خانها ملوك وأمراء الطوائف، هي من تقف سداً منيعاً في وجه كل العواصف والرياح العاتية، هي دمشق التي يقف على محرابها موسى وعيسى ومحمد في وقت واحد ويرفعون أيديهم للسماء: يا رب احمِ لنا الشام.
فلا عجب يا ولدي أن تعشق هذه الصبية وتقدم دمك الطاهر مهراً لها..
لم يمت الثائر:
أناديك يا ولدي وأشكو إليك بأي كأس أسقيتني ألم الفراق والحرمان، فيا ربي أطفئ لوعة الشوق في قلبي وألهمني الصبر على الفراق والحرمان..
يا ولدي كل يوم يطرق بابي عشرات العشرات من الصبايا والشباب، من الرجال والنساء، من الأطفال والمحرومين.. يسألون خاطري ويقصون علي قصص العشق والحب والمودة والوفاء، ويقولون لي كان ثائر صديقاً للوردة ونسمة الهواء، كان صديقاً للعصافير ورائحة المتة والشاي، والغيمة والرعد، كان ولدي باباً مفتوحاً يستقبل بين ثنايا قلبه كل أنواع الورود والياسمين، والفقير والغني، وصاحب بسطة الصبارة، و«المتعيش» على قارعة الطريق، وصاحب الشأن من وزير ونائب وعسكري وجندي…
ولدي لم يمشِ على طريق الخطر كما يقولون، بل مشى على طريق عشق «ليل حبيبة» ولدي لم يمت، كما يقولون بل ارتقى شهيداً لديار الحق حين هتفتِ السماء له فلبى النداء، ولدي «زفته» الشام وأهل الشام عريساً دمشقياً وسيماً لأعالي السماء، وغنى له أهل الشام «زينوا المرجة والمرجة لينا» و«زلغطو» له، لم يكن تشييعاً له بل عرس جماهيري لفتى الشام، الطفل الأنيق الوسيم العاشق المحب، الرجل الذي علم كم هو غالٍ مهر «ليل حبيبة» فلم يبخل ولم يتردد فدفع مهراً غالياً وغالياً جداً وأعجزني وأصابني بالجنون هذا المهر الذي دفعه ثائر لـ«ليل حبيبة».
لم يولد ثائر في الثامن من آذار عام 1981 م ليكون طفلاً عادياً، بل ولد رجلاً متميزاً مبدعاً، واستشهد طفلاً عاشقاً، وقدم مهراً غالياً لـ«ليل حبيبة»..
ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، غدا الحزن كساءً لي، والحزن أضحى عشقي ورفيقي.. فهل بعد هذا يا ولدي أستعيدُ بعضاً مني… أم عشق «ليل حبيبة» سيجمعنا معاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن