قضايا وآراء

إدلب.. اتفاق الضرورة وسط حقل من الألغام

| محمد نادر العمري

تتنوع وتتراكم الصراعات بين القوى الإقليمية والدولية بشأن التحكم والتمدد على النظام الشرق أوسطي، وتبرز بين وقت وآخر أزمات متلاحقة تجسد عمق التباينات في الرؤى والسياسات بين الكثير من الفواعل الرئيسية، والتي تخلق ما يمكن تسميته بـ«حروب تكسير العظام» بين قوى، رغم التباينات في مصالحها، قد يجمع بينها بعض التفاهمات والتوافقات الجزئية، فإدلب السورية، دائرة ضمن هذا المسار، وباتت محوراً لصراع متدخل بين النظام التركي المدعوم إلى حد كبير من الدول الغربية والمجموعات المسلحة على الأرض، من ناحية، والقوات السورية المدعومة من روسيا وطهران، من ناحية أخرى. عمق الأزمة بين الجانبين دفع إلى الرهان على اللقاء الذي جمع مؤخراً، الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية.
اللقاء بين الرئيسين جاء على خلفية تصاعد المخاوف من ارتدادات أي هجوم عسكري من قبل الجيش السوري على مدينة إدلب، لاسيما بعدما حشدت الحكومة السورية قواتها حول المدينة وعلى تخومها. وقد أثار ذلك اضطرابات كثيرة في مسار العلاقات والتشابكات بين الدول الراعية لمسار آستانا على المستوى الإقليمي وصعد من التوتر والصراع الدولي، على نحو دفع أنقرة إلى تكثيف مفاوضاتها مع الجانب الروسي والإيراني، من أجل تجنب أي عمل عسكري، قد يخلط الأوراق، ويحد من القدرة على ضبط العلاقات المشتركة.
تكتسي إدلب أهمية إستراتيجية بالنسبة للفواعل الرئيسية في الشمال السوري، فتركيا تعتبرها المحافظة الواقعة على حدودها، وجزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي، ومدخلها للحفاظ على نفوذها ووجودها ضمن أي إطار مستقبلي لتسوية الأزمة السورية، كما أن الجماعات المسلحة والإرهابية المنتشرة في إدلب تمثل رهانها في مواجهة خصومها، مثل «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تعتبر أنها امتداد لـ«حزب العمال الكردستاني»، الذي ينشط على المثلث الحدودي بين كل من العراق وتركيا وإيران.
في المقابل، فإن روسيا والدولة السورية يدركان أن إنهاء ملف إدلب يعني تحولا كبيراً في مسار الأزمة السورية لصالحهما، هذا إلى جانب الاعتبارات الأمنية، ذلك أن وجود جماعات إرهابية في سورية يعني بقاء الأزمة مفتوحة، فضلاً عن احتضان إدلب للمئات من العناصر التكفيرية مثل العناصر الشيشانية، والتي تمثل، بدورها، تهديداً مستمراً لمصالح موسكو، والتي تكشف سياساتها عن أن ثمة إصراراً على استعادة الحكومة السورية سيطرتها الكاملة على محافظة إدلب. وقد سبق للرئيس فلاديمير بوتين، أن صرح خلال القمة الثلاثية في طهران بأن «من حق الحكومة السورية استعادة السيطرة على كل المناطق الخارجة على سيطرتها»، الأمر الذي رد عليه أردوغان بالقول لا «يمكن السماح بانتزاع المنطقة».
عملت موسكو، على توظيف إستراتيجية متعددة المحاور من أجل تحقيق استعادة الشمال السوري، ففي الوقت الذي وظفت فيه الأداة العسكرية عبر توجيه ضربات متتالية لمواقع المجموعات الإرهابية ومراكز قياداتهم ومخازنهم في إدلب، فقد أتاحت المجال أمام الدبلوماسية التركية للتفاوض من أجل التوصل لحلول جزئية للقضايا العالقة، وسعت موسكو، إلى التأكيد على أنه في حال فشلت مساعي الحل السياسي، لن يكون ثمة بديل عن إطلاق عملية عسكرية كبرى للقضاء على «الخطر الإرهابي في إدلب».
وأشارت تقارير روسية إلى أن موسكو لا تمانع في منح أنقرة مهلة إضافية لتنفيذ تعهداتها في ملف فصل ما يسمى المعارضة المعتدلة عن الإرهابيين، رغم أنها ترى أن «هذه المهمة ستكون صعبة، تأسيساً على أن الجزء الأكبر من العناصر الإرهابية سوف يسعى إلى مواصلة التصعيد العسكري، وذلك على نحو يستدعي رداً عسكرياً من جانب السلطات السورية».
وفي مسار موازٍ، أرسلت موسكو أسطولاً من السفن الحربية إلى شرق البحر المتوسط، في أكبر انتشار بحري لها في المنطقة منذ دخولها لسورية 2015. كما حذرت روسيا من أن مجموعات إرهابية كانت تستعد لشن هجوم بالأسلحة الكيميائية، على نحو يدفع لاحقاً بإلقاء اللوم على الحكومة السورية.
كما استبقت أنقرة قمة سوتشي بتصعيد لهجتها، وربطت «أي هجوم يستهدف إدلب السورية بالهجوم عليها». إستراتيجية موسكو أوضحت نمط الإدراك الروسي لأهمية تركيا، لذلك سعت في الوقت نفسه، إلى محاولة التوصل إلى تسويات شبيهة بما حدث في «الغوطتين»، والجنوب السوري. وفي هذا الشأن، قال وزير الدفاع الروسي إن سورية ستحجم عن شن هجوم على مدينة إدلب بعد أن وافق رئيس روسيا وتركيا على إقامة «منطقة منزوعة السلاح» هناك لتجنب مواجهة عسكرية محتملة.
بينما كانت إيران الحاضر الغائب عن قمة سوتشي، فإن فلاديمير بوتين اتفق مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، على خطة حل لأزمة إدلب، وذلك من خلال العمل المشترك من أجل إقامة منطقة عازلة تمتد من 10 إلى 12 ميلاً على طول حدود المدينة، كمنطقة آمنة من هجوم القوات الجوية السورية والروسية، على أن يبدأ العمل لتغدو جاهزة بحلول 15 تشرين الأول القادم، ومن المقرر أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة منها، بما في ذلك الدبابات ومدافع الهاون والمدفعية بحلول 10 تشرين الثاني القادم، على أن يتم إبعاد كل عناصر «هيئة تحرير الشام» الإرهابية والمجموعات المرتبطة معها من هذه المنطقة.
بينما اعتبر البعض أن الإعلان عن منطقة إدلب العازلة يمثل نجاحاً دبلوماسياً للرئيس أردوغان، في مواجهة القوى الغربية التي اعتبر أنها تخلت عنه في معركة الحد من تدفق اللاجئين عبر الحدود السورية، في مقابل ذلك، فإن الاتفاق هو مرحلي ومؤطر زمنياً ويمثل في الوقت ذاته مكسباً استراتيجياً وليس تكتيكياً لسورية وروسيا وإيران في ضمان دفع تركيا لمواجهة العناصر المتطرفة في إدلب إن صدقت النوايا التركية، أو على الأقل تكون هذه الدول نجحت في وضع تركيا بعنق الزجاجة، وفي الوقت نفسه تعزيز موسكو من علاقاتها مع أنقرة على حساب علاقات الأخيرة المتوترة مع الكثير من القوى الغربية ويشكل خرقاً داخل الناتو تمثل في إقدام وزير دفاع تركيا بتوقيع اتفاق تعاون مع موسكو، فضلاً عن سحب فتيل عدوان كبير كان يحضر على سورية بذريعة استخدام الكيميائي.
لكن الاتفاق الروسي – التركي لا ضمان لتطبيقه وترسيخه على الأرض وتحويله من الشكل النظري للواقع التنفيذي، ويصعب الرهان على نجاحه بنحو كامل، ذلك أن:
• إدلب تشكل خليطاً غير منسجم بين الجماعات الإرهابية، ويبدو أن قدرة تركيا على مواجهة تنظيمات «هيئة تحرير الشام» و«حراس الدين» و«الحزب التركستاني» محدودة رغم انخراطها السابق في عمليات تتعلق بتصفية أكثر عناصره تشدداً. هذا إضافة إلى أن مواجهة بين الجماعات التي تصنفها أنقرة بالمعارضة المسلحة المعتدلة والمتشددة بتعزيز من تركيا لن تكون سهلة، في ظل رفض جماعات التابعة لأنقرة بالانخراط الكامل في هذه الصراعات بذريعة عدم قدرتها على مواجهة المتشددين.
• في حال قررت تركيا شن عمليات عسكرية ضد هذه التنظيمات التي انبرى معظم قياداته مسرعين لرفض الاتفاق، فهذا يعني أن نظام أردوغان سيتحمل أعباء وخسائر بشرية ومادية ستزيد من الضغط عليه داخلياً.
• قد تسعى أنقرة لحشد هؤلاء الإرهابيين وترحيل من يرغب منهم لدولهم وتقاتل القوات الكردية بالبعض الآخر، ولكنها لن تنجح في إقامة مخيمات للمتبقين منهم على غرار نموذج مجاهدي خلق الإيرانية.
• مسألة ضمان أمن عناصر الدوريات المشتركة وخاصة الروسية منها، في ظل اعتبار حتى التنظيمات التابعة لتركيا أن روسيا شريكة للدولة السورية.
• عدم وجود إرادة إقليمية ودولية جادة في حل الأزمة السورية سياسياً بمخرجات ونتائج لا تحقق مكاسب الدول المعتدية على سورية في مقدمتها واشنطن وتل أبيب، وهذا برز بشكل أوضح من خلال العدوان الإسرائيلي على مدينة اللاذقية والذي أعقب الاتفاق بساعات قليلة وبضوء أخضر أميركي وتسهيل لوجستي فرنسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن