قضايا وآراء

العُقد النفسية تسكن البيت الأبيض

| د. يوسف جاد الحق

عقد نفسية متشابكة قلما تجتمع في شخص واحد، غير أنها تجتمع الآن بجدارة وامتياز في شخص الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقد نضيف إليها عقداً أخرى كمركب النقص، وعقد الفوبيا والذهان والخوف على المصير، من دون أن نكون قد تجنينا على الرجل، وذلك أن تصرفاته وسلوكه وتحركاته وملامح شخصيته المعقدة أمست واضحة بيِّنه للعامة والخاصة حتى لدى الأميركيين أنفسهم، قبل غيرهم.
ولكي نتعرف إلى شيء من هذا الكم من العقد، يمكننا البدء بالنرجسية، حيث يتركز تفكير ترامب على ذاته، شكلاً ومضموناً، فهو يتصور أن شخصه «مهم»، وأنه «خارق» وأنه «فلتة» زمانه التي قل أن يجود الزمان بمثلها، وإلا لما أصبح رئيساً لهذه الدولة الأولى أو الثانية في العالم.
أما عن عقدة الشيزوفرانيا، أي انفصام الشخصية، فالرجل متقلب مرتبك، لا يثبت على رأي أو حال أو موقف لمدة معقولة من الوقت، فقد يصدر في الساعة الواحدة قرارات عديدة متباينة متناقضة تبدو وكأنها تصدر عن شخصيتين مختلفتين أو أكثر، لا عن شخص سوي واحدٍ، يقول اليوم ما ينقضه غداً، ويعلن ما يمكن أن يعلن عكسه في الساعة التي تليها الثانية من دون أن يرفّ له جفن، وليس عليه إلا أن يقول أي شيء ليسوغ تلك التناقضات التي لم تعرف عن أي رئيس على وجه الأرض، هذا إذا ما نبهته جهة ما إلى ما بدر منه من عجائب وغرائب، فهو يفرض العقوبات، على سبيل المثال، على دولة ما، ثم يلغيها من دون سبب موضوعي في الحالتين، ويعطي نفسه حق فرضها هنا وهناك متى يشاء من دون أن يعي أنه لا يملك هذا الحق أصلاً، وهو يتودد إلى شخصية دولية مرموقة، أو رئيس دولة مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو رئيس جمهورية كوريا الديمقراطية، ويصف الرجلين وأحاديثه معهما بالجيدة جداً، لكنه سرعان ما ينقلب إلى الموقف النقيض، فيبادر إلى التهجم عليهما من دون سبب واضح على مستوى العلاقات والأعراف الدولية السياسية والدبلوماسية. يرى في لحظة ما أن كوريا الديمقراطية قد انصاعت لرغباته وأمنياته عندها يكون راضياً عنها، ثم يرى في غضون أيام أنها دولة مارقة، لذلك لابد من إبقاء العقوبات عليها إن لم يكن تشديدها أيضاً!
وهو ينسحب من الاتفاق النووي مع إيران لأسباب يراها هو أو يريه إياها اللوبي الصهيوني وجماعة المحافظين الجدد أو مستشاره الفذ جون بولتون، ثم لا يلبث أن يتراجع عن التسرع في اتخاذ قراره فيطلب من إيران عقد محادثات معها لتوقيع اتفاق جديد، وهو في هذا كله يبغي أن تظل الأنظار مشدودة إليه، مركزة أنظارها تلك على تقاطيع وجهه المطاطي العجيب، ونظرات عينيه المضطربة، وابتسامته البهيجة التي يتبعها على الفور عقدة صارمة على جبين مكفهر!
يحدث هذا للرجل على مرأى من العالم كله في كل يوم، في كل ساعة ما أفقد أميركا البقية التي كانت لها من الهيبة كدولة عظمى بين الدول.
أما فيما يتعلق بعقدة جنون العظمة لدى ترامب، فمن مظاهرها وعلاماتها البادية طريقة الرجل في سائر تصرفاته، في نظراته المتعجرفة، في مشيته المهزوزة، في حركات يديه عند أحاديثه في المناسبات، في تواقيعه التي يعرضها، بفتح دفتره على دفتيه، كلما وقّع أمراً أو مرسوماً أو تغريدة، الأمر الذي لم يعرف من قبل عن سابقيه، سواء في أميركا أم في غيرها من دول العالم. لكأن الرجل يعتقد أن توقيعه «الهمايوني» تحفة فنية جديرة بالعرض على الملأ في كل حين.
يتصور ترامب بسبب من هذه العقدة أنه سيد الكون، يعاقب من يشاء ويعفو عمن يشاء، من دون أسباب أو مسوغات أو موجبات. يفرض الضرائب ويرفع نسب الجمارك على هذه الدولة، ولا يعقل الشيء نفسه على دولة أخرى برغم تشابه الحالتين، وهو لا يستثني من نزواته وبدواته هذه أي دولة، حتى روسيا المعادلة لأميركا في القوة والمكانة، بل قد تفوقها، ولاسيما في الأدبيات والأخلاقيات والمسلكية في السياسة الدولية.
الاستثناء الأوحد الذي لا يجرؤ ترامب على الاقتراب منه هو إسرائيل، ذلك أن إسرائيل هي من يقف وراء الكثير من تصرفاته، ويكفي أن ننظر إلى موقفه العدواني من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو الموقف الذي يمليه عليه بنيامين نتنياهو، منذ وقت بعيد، إلى دفع أميركا لشن حرب عليها لمصلحة إسرائيل ونيابة عنها.
قد يتبادر هنا إلى الأذهان التساؤل: كيف تكون حال هذا الرجل، من نرجسية وجنون عظمة، وأن تكون لديه عقدة نقص في الوقت ذاته؟
الجواب عن هذا التساؤل هو أن هذه العقدة تحديداً هي مصدر الكثير مما يؤرقه، فهو يعرف أنه لا يتمتع بصفات تؤهله لرئاسة بلد كأميركا. وهو يعرف أنه لم يعرف السياسة بالتجربة والممارسة، أو بالعلم أو التمتع بالحنكة السياسية، وهو يعرف أنه مجرد تاجر عقارات فهلوي. وأين هذا كله من منصب رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأميركية؟
من هنا فهو يختلق المناكفات والمشاكسات مع رؤساء دول كبيرة لمجرد التأكيد على أنه ليس أقل شأناً من هذا الرئيس أو ذاك: السيد ترامب يصطنع الأزمات مع الدول الأخرى اصطناعاً، فلم تسلم منه دول أوروبا، حليفة أميركا نفسها، ولا الصين أو اليابان، ناهيك عن إيران وسورية والعراق، والعرب كافة بمن فيهم أصدقاؤه وأدواته، حتى جارته كندا، وبريطانيا وألمانيا وغيرها وغيرها. تلك المعارك التي يثيرها ترامب ما هي إلا حالات تعويض عن مركب النقص الذي يعتريه في تكوينه الشخصي. يحاول الرجل جاهداً إثبات موجوديته ليس إلا حتى من دون أن يعي ذلك. لعل الرجل يستحق الإشفاق والرثاء أكثر مما يستحق الغضب والاستياء!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن