قضايا وآراء

ترتيب داخلي

| مازن بلال

الهدوء النسبي للجبهات العسكرية يحمل معه شكلاً مختلفاً من الصراع القادم، فمع قناعة الأطراف الدولية أن الميزان السياسي لا ترسمه المعارك فقد بدأت تظهر ملامح اشتباك سياسي، فالولايات المتحدة تعود إلى صيغة «إيجاد قوة على الأرض» والتمسك ببقاء وحداتها في بعض المناطق السورية، على حين تطرح موسكو على لسان رئيسها فلاديمير بوتين ضرورة انسحاب القوات الأجنبية بما فيها القوات الروسية، وهي دعوة تبدو للوهلة الأولى تحدياً للتصريحات الأميركية حول بقاء قوتها، لكنها في العمق تشكل البداية لصراع سياسي يحضر الجميع أدواته للدخول فيه.
عملياً فإن النقاط التي تتم إثارتها اليوم تتعلق بأرجحية عمل اللجنة الدستورية على باقي المسائل، في وقت تبدو فيه مفاوضات جنيف وأستانا متباعدتين وفاقدتين للوظيفة الحقيقية، وخصوصاً بعد الاتفاق الروسي التركي بخصوص إدلب، فالوسائل الدولية السابقة تم استنزافها أو انتهت مهامها، والقرارات الدولية بخصوص الأزمة السورية تحتاج لمساحة مختلفة كي تعود إلى النور، ولكن هذا الأمر يواجه إشكاليتين:
– الأولى هي نوعية الاستقطاب الحاصل، فإذا كان مؤتمر جنيف تجميعاً للقوى الدولية والإقليمية لاستيعاب الأزمة السورية، فإنه انتهى لوجود كتلتين سياسيتين تدعمان الأطراف المفاوضة وهو ما فرض ظهور أستانا الذي خلق اختراقاً لكنه كرس أيضاً حالة الاستقطاب حول روسيا بوجه خاص.
– الإشكالية الثانية متعلقة بالقاعدة السورية التي يمكن الاعتماد عليها، فالطرف المعارض في التفاوض تفكك عملياً بفعل التحولات السياسية والعسكرية، ومنذ معركة عين عرب بات واضحاً أن رهانات الولايات المتحدة تتحول تدريجياً نحو مساحة سورية مختلفة، وهو ما استدعى وجودها العسكري سواء في منطقة الجزيرة السورية أم في التنف.
يمثل المشهد اليوم سباقاً نحو الداخل السوري سواء في المناطق التي استرجعتها الدولة من الإرهابيين أم حتى في الجغرافية التي مازالت تشهد اضطرابات، مثل الجزيرة السورية أو إدلب رغم الاختلاف في ظروف كل منهما، وبالتأكيد فإن مساحة السياسة هي أوسع اليوم لكنها في الوقت نفسه تفتقد العناصر الضرورية كي تكون أكثر فاعلية، ودعوة بوتين هي ضمن هذا المناخ، فالمسألة ليست سحب القوات بقدر كونها إتاحة للعمل السياسي وترتيب أدواته، وضمن هذا السياق يمكن فهم الكثير من الخطوات التي اتخذتها الحكومة السورية كالانتخابات المحلية، فعمليات الترتيب الداخلي هي تحضير أساسي لمرحلة سياسية قد تطول نتيجة الظرفين الدولي والإقليمي.
المحصلة النهائية للاشتباك الدولي خلال سنوات الأزمة في سورية لم تتضح كثيراً، فرغم أن عامل القوة العسكرية لم يستطع فرض سيناريو بذاته، لكنه أوجد خللاً واضحاً في منظومة الشرق الأوسط عموماً، وعندما تعتمد واشنطن أسلوب محاربة إيران من خلال سورية فهذا يعني مع انخفاض وتيرة المعارك أن الصراع بات على مساحة أصغر تطول الكثير من التفاصيل السورية، فخرائط التوازنات العامة لشرقي المتوسط يتم رسمها في الأروقة الدولية، لكنها ستسند إلى واقع سياسي على الأرض وهو ما يشكل استحقاقاً أمام السوريين عموماً وليس أمام الحكومة فقط.
عبر سبع سنوات أوجدت المؤتمرات الدولية، وخصوصاً الاقتصادية، أرضية لشبكة المصالح الدولية التي تريد العمل في سورية، وإعادة الإعمار شكل العنوان الأبرز لكنه في الوقت نفسه تضمن العديد من الشروط التي يطرحها الغرب يومياً، والمعطيات التي قدمتها هذه المؤتمرات تحتاج بالدرجة الأولى إلى علاقات سورية من نوع خاص، وهو ما دفع العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية إلى عقد مؤتمرات وورشات عمل موجهة بمعظمها للداخل السوري، على حين بقيت القوى السياسية والاجتماعية السورية ضمن حدود الصراعات السياسية الكبرى في جنيف وأستانا، وبرامج عملها حتى الآن محصورة بالمواقف السياسية أو برسم خريطة للحلفاء.
لن تكون التصورات بشأن سورية المستقبل هي المسألة الأساسية، بل أيضاً تنمية أدوات هذه التصورات ووضعها ضمن إطار اجتماعي يناسب الجميع، فالصراع السياسي القادم منصب على وضع مفاهيم مختلفة بأغلبها بعيدة عن النوعية التي اعتدناها، فالزمن القادم ليس للمشاهدة بل للتأثير العميق لضمان الاستقرار الاجتماعي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن