اقتصاد

وزارة الذكريات!

| علي محمود هاشم

لم تقدم الورشة جديداً، فبرغم استنساخ التنظير اللافت في دقته للخطابات التي تُليت مرة فأخرى خلال عقدين كاملين من الزمن، إلا أنه لا يمكن نكران بعض التجدد «الواضح» في أسماء الوزراء والمسؤولين، المديرين والمستشارين، وحتى الحضور. إنها موجتنا الثانية من تاريخ الحكومة الإلكترونية.
مرّ وقت طويل بالفعل، «مداولات» ورشة عمل «الحكومة الإلكترونية.. التنسيق والتكامل» التي أقامتها وزارة الاتصالات قبل أيام، أثارت لواعج الذكريات عن تلك الأيام الغابرة التي استمعنا فيها لمثل هذه الخطابات: سنشكل لجنة وطنية للتشفير قريباً.. سننتهي من تعزيز البنى التحتية قريباً أيضاً، وسندرب العاملين في وزارات الدولة، وسنطّلع على تجارب الدول المتقدمة، نحتاج إلى تكاتف مؤسساتي، وتمويل كبير، ولتلطيف العطالة الحكومية.
عينتنا المكررة هذه عن مطلع الألفية الجديدة، تعود في جذورها النظرية لنهاية القرن الماضي، كنّا حينها روّاداً في تبنّي المبادرات على مستوى المنطقة، إلا أن مشروعنا لـ«ألف ميل» الحكومة الإلكترونية لطالما استمسك بخطوة أولى للأمام، قبل أن يتكفل البعد الرابع للزمن بإعادتها للصفر، لتبدأ بعد عقد خطوتنا الأولى مجدداً، لكن بأرجل جديدة، وهكذا.. طوبى لمن لا يتغير ولا يغيّر.. لمن لا يفعل شيئاً، طوبى للعطالة الذاتية!
يمكن للمرء نعت الورشة بما يريد، فعلى الصعيد النظري، يسهل اتهامها بإثارة الحنق إزاء وزارة الاتصالات، هذا الكيان الذي يرتكز عمله بشكل رئيس على توفير الأعتدة اللازمة لتمرير أحد أبرز نوافذ التواصل المعرفي بين السوريين والتاريخ الراهن المتسارع عالمياً، تبدو محصّنة بشكل غريب ضد مخاوف تصاعد المقارنات بين سوء الخدمة العامة، على طرفي الخط!
فوفق بياناتها، يتوافر لدينا اليوم نسب اختراق كبيرة في الوصول السريع للشبكة عبر الاتصالات الثابتة والمتنقلة، قد يقرب من الـ50 بالمئة، هذا الأمر مدعاة لفخر المرجعيات الفنية في القطاع أمام المواطن، إلا أنه ينقلب مثيراً للشفقة حيال المناقشات المستفيضة التي يخوضها مسؤولوه منذ سنوات حول أهمية الخدمة الإلكترونية، له وللمصلحة العامة!
في المقابل، تستدعي رؤية النصف الملآن النظر إلى ما وراء الورشة، حيث العديد من الاختراقات التي تم تحقيقها في ميدان الرقمنة بغض النظر عن وسائطها وانتشارها: بعضها مصرفي، والآخر أبعد قليلاً كما هي حال مراكز خدمة المواطن، وبشكل جزئي البطاقات الذكية لدعم المحروقات.. حسناً أن بعضنا لم ينتظر «تنسيق وتكامل» جماعة بوابة الحكومة الإلكترونية، وإلا لكنّا جميعاً «نسير» اليوم وفق ساعة الاتصالات المستسلمة لأعطالها.
«ورشة التكامل» الأخيرة يمكن عدّها أيضاً ضمن النصف الملآن، إذا ما تم التعاطي معها كنشاط طارئ لإصلاح الأعطال التي كرسها الزمن، إلا أن في تفاصيلها ما يثير الريبة مجدداً، فمثلاً، وبشكل متعاكس، تم الإفصاح عن أننا لا نزال نفتقر إلى نظام «ترقيم المؤسسات الحكومية»، هذا الترقيم أمر غير تفصيلي في البنيان الإلكتروني تبعاً للتعقيد الشديد في هيكلة مؤسستنا الحكومية والمتطلبات القانونية والمالية لخدماتها، وبغيابه تتحول البيانات التي يتم الاحتفاء بوضعها على بوابة الحكومة الإلكترونية، إلى لا شيء.. مجرد كتيب ورقي تم توطينه عبر وسيط إلكتروني.
ولأن الترقيم هو «ألف باء» الحكومة الإلكترونية، وهو الجهد الذاتي الذي يُسند للحكومة وحدها إنجازه داخلياً دون ورشات أو تعاقدات خارجية.. فلربما يجدر بالاتصالات إقامة معسكرات حكومية داخلية قبيل اعتلاء شرفتها للإطلال على الجماهير.. دون ذلك، فكل الخطابات المجانية عن «بوابة» أو «حكومة» أو «تنسيق وتكامل» لهي مجرد وهن لعزيمتنا الإلكترونية!
لن تكون ورشتنا عن «التكامل والتنسيق» الأخيرة، مجرد رقم جديد بين الآلاف من شقيقاتها السابقات واللاحقات، وقد حان الوقت للتساؤل عن أهدافها.. هل للأمر علاقة بتسويق الفكرة جماهيرياً، أم هي «رمي» حكومي تمهيدي؟
جماهيرياً لم يعد الجمهور السوري يطيق مزيداً من التثقيف، لربما سيحصل على درجة عالية لو تم اختباره بأهمية الخدمات ذات الشكل الإلكتروني.. لا يحتاج إلى أكثر من تدفق الخدمات إليه، وهذا أمر يحتاج إلى من يعمل عليه مهتدياً بما للخدمات الإلكترونية من قدرة أنجع على وأد الأمراض التقليدية الملتصقة بالمؤسسة الحكومية، قديمها وجديدها.
يبقى الشق الآخر ذو العلاقة بالتنسيق الحكومي، لعله أمر يجب فعله داخلياً بعيداً عن الضجيج، والورشات على وجه الخصوص، درءاً لتحول التاريخ إلى مهزلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن