ثقافة وفن

إلى غير رجعة..

د. اسكندر لوقا : 

كذلك كان حال القوات الفرنسية، يوم خرجت من أرضنا في عام 1946 إلى غير رجعة.
قبل ذلك بسنوات، وتحديداً في التاسع من شهر آب 1920، نشرت السلطات المسؤولة عن مديرية المطبوعات الفرنسية في دمشق، بلاغا إلى السوريين جاء فيه بالحرف: إن القوات الفرنسية لم تدخل سورية لتخرج منها. إن فرنسا لن تتساهل في هذه المسألة. وليتذكر الجميع جملة قالها الجنرال غورو على قبر صلاح الدين: ها قد عدنا يا صلاح الدين.
ومعروف لدى السوريين أن هذه الغطرسة طمرت تحت أقدام الثوار الذين أعدوا العدة لمواجهة أصحابها، مستذكرين أن ثمة العديد ممن روجوا لمثل هذه النغمة كان مصيرهم الخروج من أرض سورية محملين على ظهورهم ولم يعودوا إليها.
وفي أيامنا الراهنة، حيث يتسابق المعتدون على أرضنا بالقول إنهم باقون أو يسعون للبقاء فيها هنا أوهناك، ربما ينسون أو يتناسون أن التاريخ يبقى شاهدا على اندحار من اعتقد يوماً أن سورية سهلة المنال ويمكن ابتلاعها حسب الطلب، وها هم اليوم أحفاد هؤلاء يحلمون بمثل ما حلم به أجدادهم ولا يحاولون قراءة تاريخ سورية بجدية وبإمعان.
إن سورية التي خبرت أيام الجنرال غورو رئيس الجيوش الفرنسية في الشرق، خبرت قبله أيام سلاطين بني عثمان الذين حكموا بلاد الشام لعدة قرون متواصلة، إن سورية هذه كما امتلكت بالأمس عناصر قوتها التي مكنتها من دحر الغزاة والمحتلين، قادرة اليوم على تحميل صفحات التاريخ مستقبلا حكايات لا تنتهي عن صمود أبنائها وعزمهم المستدام على كتابة فصول هزيمة أعدائها اليوم وعلى نحو ما يرد في كتب التاريخ القديم والمعاصر على حد سواء.
ها قد عدنا يا صلاح الدين؟ نحن اليوم نسأل أين تبعات هذه الجملة التي تغنّى بها الجنرال غورو؟ وأين قواته التي دخلت دمشق مزهوة بجرائمها التي تشهد على وحشيتها رحاب ميسلون البطلة؟ إنها الغطرسة التي تدوِّخ أحياناً أصحابها إلى حدّ الهذيان، على نحو ما فعل الجنرال غورو. إنها العنجهية التي دفعته إلى حدّ الاعتقاد بأن كلمته هي كلمة الفصل، في حين التاريخ أسقط تبعاتها على أرض الواقع، ويبقى على أعداء الشعوب اليوم وغدا ودائما أن يتفهموها لا أن يفهموها فقط.
لهذا الاعتبار، لا يملك أحدنا سوى انتظار يوم انتصارنا على أعدائنا، همج العقد الثاني من القرن الحالي، لنردد مع الفيلسوف والروائي والناشط السياسي الفرنسي أندريه مالرو [1910 – 1976 ] قوله: إن أكثر حالات الجنون تدميرا أن يكون صاحبها إنسانا يعتقد أنه ليس أحمق.
وهذا ما ينطبق على من يعتقد اليوم أن سورية لقمة سائغة يسهل ابتلاعها مجانا قبل أن تقتلع جذوره من أرضها وإلى غير رجعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن