ثقافة وفن

عشقها لسورية جعلها تُدفن في تربتها وهي تحتفي بها … أورسولا باهر بير: أيها السوريون انتصرتم لأنكم على حق… وصيتي أن أدفن في سورية بلد الشهداء

| سوسن صيداوي- ت: طارق السعدوني

يا لغرابتك أيها القدر!، ليس من السهل أن تنصاع لرغباتنا حتى إنه بالأمر الغريب عليك- إن حصل- أن تتواطأ مع أمنياتنا المدفونة، بل تُطلق العنان للظروف كي تمكّنها الأخيرة من أن تظهر للعلن بتحقيقها. نعم يا أعزائي فعلها هذه المرة واستجاب لرغبة ومن بعدها رغبة أخرى، وكانت حقا… الرغبة الأخيرة.

للدخول في صلب الموضوع وبعيدا عن الإطالة، فلقد مهّد القدر درب خطا الفنانة التشكيلية الألمانية أورسولا باهر بير وحقق لها أمنيتها بأن تزور سورية، بل أن تكون هذه الزيارة هي الأخيرة، حيث تسكن فيها إلى أبد الدهر، عبر تنفيذ وصيتها بدفنها تحت تراب أرضنا السمراء السورية.
من البداية وبعد التواصل مع وزارة الثقافة وبالتعاون مع وزارة السياحة، تمّ تنظيم معرض «النهوض من الرماد» للفنانة وافتتاحه في الآونة الأخيرة بدار الأسد للثقافة والفنون في دمشق. والغريب حقا في مكر هذا القدر، كيف حقق هذه الغاية لها، بعد أن أبدت وجسّدت عبر لوحاتها الست والأربعين معاناة الشعب السوري وصمود جيشه السوري الباسل مع التمسك بالمبادئ الوطنية الثابتة، فالرسوم وصفت إحساسها وعمق دفء مشاعرها للوطن سورية وإيمانها الراسخ بقضيته على الرغم من كونها ألمانية الجنسية وغريبة الهوى عن سوريتنا المشرقية. لقد أظهرت الفنانة أورسولا ما لم يقم المواطن السوري بإظهاره، وقالت في كلمتها الأخيرة للجميع عبر صوت متهدج وأنفاس شبه متقطعة ونظرات يملؤها الدمع ومودعة للجميع، وحاضنة إلى قلبها الياسمين الدمشقي «أيها السوريون أنتم انتصرتم لأنكم على حق، وأنا قدِمت إليكم لأنني أحبكم، وضعي الصحي صعب، وإذا وافتني المنية هنا فوصيتي أن أدفن في تراب سورية لأنها بلد الشهداء».
صحيفة «الوطـن» كانت في افتتاح المعرض ولاحظنا التعاطف الإنساني مع الفنانة لأنها لمست بأعمالها قلب كل سوري، ووضعت يدها على جراحنا، وبالفعل خبر رحيل الفنانة أورسولا عن دنيانا شكل صدمة لكل من كان، الأمر الذي دفعنا أن ننقل لكم النظرة للأعمال عبر افتتاح المعرض بالإضافة إلى كلمات معبّرة إلى الفقيدة. وقبل التفاصيل تجدر الإشارة إلى أنه وبلفتة كريمة وتقديرية للفنانة طلب وزير الثقافة محمد الأحمد تمديد معرض «النهوض من الرماد» لمدة أسبوع آخر كي تتوافر الفرصة للجميع للحضور تكريما للراحلة.
أعمال تدحض التضليلات الإعلامية

افتتح المهندس علي المبيض معاون السيد وزير الثقافة معرض الرسامة الألمانية أورسولا باهر بير، وأوضح بأن التشكيلية الألمانية لم تكتف بالوقوف إلى جانب أبناء الجالية السورية في برلين خلال الوقفات الاحتجاجية المنددة ما يتعرض له شعبنا السوري، بل سعت بكل دفء عاطفة أن تعبّر عما راقبته من أخبار صحيحة وبعيدة عن أي تضليل كي تنقل حقيقة الواقع المر قائلاً «بالفعل كانت أمنية الفنانة بأن تقيم معرضها في سورية، وحقيقة كانت همست في أذني خلال الافتتاح، بأنها تتمنى أن تمضي بقية أيام حياتها في سورية، كما رغبتها بأن تُدفن في دمشق. لقد فوجئت بخبر وفاتها وانتقالها إلى الرفيق الأعلى. وكان المشهد الأخير للفنانة أورسولا قد أظهر تعاطفها الملحوظ مع الشعب السوري، وكان جمهور الحضور قد بادلها هذا التعاطف. في الحقيقة الفنانة إنسانة رائعة، بل نبيلة ومرهفة الحس، لقد أُصبنا وأصيب كل المعجبين والزوار إلى معرضها بحزن شديد لوفاتها، ولكن هذه سنّة الكون».
وحول مراسم الدفن وتنفيذ وصية الفنانة أوضح معاون الوزير بأنه الوزارة تقوم بالتنسيق من أجل مراسم الدفن وتحقيق أمنيتها الأخيرة، بالقداس والجناز في صباح اليوم الخميس بكنيسة اللاتين بباب توما في دمشق، متابعا حول المعرض والأعمال قائلاً: بالطبع غاية المعرض نبيلة، كون ريع اللوحات سيكون لإحدى الجمعيات التي تعنى بمكافحة مرض السرطان، وفي لفتة كريمة من وزير الثقافة محمد الأحمد، تمّ تمديد المعرض أسبوعا آخر». متابعاً: لقد تمكنت الفنانة من تصوير معاناة السوريين خلال الحرب وكأنها مواطنة سورية حقيقة، والمعرض جاء تحية لأبناء سورية وصمودهم في الأراضي السورية موثقة بطولات الجيش العربي السوري، عبر معاناة الكندي وحصار حلب مثلاً، والكثير من الأمور الأخرى، فلكل لوحة هناك قصة، والشيء الجميل واللافت أن الفنانة الألمانية من خلال فنها تدحض كل التضليلات الإعلامية والأغاليط التي سعى إليها الغرب، من حيث إنها صورت الأزمة على أنها مؤامرة كونية استهدفت تراث البلد واستهدفت تاريخ سورية المجيد. الحقيقة موقف الفنانة موقف وطني وغاية المعرض نبيلة، ونتمنّى بأن يكون هذا المعرض رسالة لكل مواطن سوري كي يدرك مدى فداحة الحرب وآثارها على شعبنا ويوسّع فكره ووعيه بتمسكه بثوابته الوطنية».

ثبات الموقف.. رغم التحديات
عبّر الأديب والشاعر محمد منذر زريق عن بالغ أسفه وحزنه على وفاة الفنانة أورسولا كونها صديقة حقيقة وقال «ولدت أورسولا عام1960في مدينة أولم بألمانيا. لقد حصلت على دبلوم في علم الاجتماع. وانتقلت عام ١٩٨٣إلى فولدا، وفي العام ٢٠٠٧ استقرت في برلين. لديها ثلاث بنات. وكانت تعبّر في رسوماتها عن رأيها بتعاليم الكنيسة المتشددة وبالحكومة والاحتلال. وقالت ذات مرة عن فنها(بالنسبة لي يجب أن تقول الصورة ما هو غير محتمل، لوحاتي هي نقد سياسي في فن، أنا أقول في لوحاتي ما يصمت الناس عنه).
بعد تعرّفها على زوجها مارسيل، بدأت الاهتمام والبحث في حرب العراق والربيع العربي والحرب على أفغانستان وليبيا، وكل أفكارها كانت ترسمها بلوحات.
في برلين كان من الصعب عليها أن تجد مكانا يعرض لوحاتها ضد سياسة الغرب، ولكنها اشتركت بمعرض في برلين وعرضت فيه كل أفكارها السياسية. وفي عام ٢٠١٠ أقامت معرضاً في مقهى(Antiwar caffe) وفي عام ٢٠١١ بدأ اهتمامها بالحرب السورية من خلال رسوماتها. وكانت توثق ملاحظاتها ومنذ ذلك الوقت أصبحت معظم رسوماتها حول سورية التي تعتقد أنها مهددة بالإرهاب، في عام٢٠١٤ أصيبت بالسرطان واضطرت للبقاء أشهراً في المشفى وخضعت لعدة عمليات».
وحول المعرض وافتتاحه يضيف زريق قائلاً «أنا صديق لأورسولا وساعدتها في التنسيق لإقامة هذا المعرض ولكن الفضل في إقامته يعود لكل من وزارة الثقافة ووزارة السياحة اللتين لهما الدور الأكبر، فدوري مجرد دور مساعد بين الأطراف. حققت آخر وأغلى أحلامها بافتتاح معرضها في دار الأوبرا بدمشق في 8 تشرين الأول 2018، وارتقت روحها إلى الملكوت في صباح اليوم التالي لافتتاح المعرض، وكانت وصيتها أن تدفن في دمشق. في الحقيقة أورسولا قدمت وظيفتها في الخارج بشكل نبيل جدا، وخلال كل سنوات الحرب على سورية، بقيت على موقفها مع سورية ومتضامنة مع الشعب السوري، حتى إنها أقامت معرضا في برلين مناصرة لقضية الشعب السوري، حتى إنها حوربت كثيرا هي وزوجها الإعلامي المناصر للقضايا العربية وللقضية الفلسطينية، الأخير الذي حوكم بتهمة عدائه للسامية، وبالرغم من كل الضغوطات فهما لم يقصّرا مطلقاً، حتى إنها فضحا الإعلام الغربي بأدواتهما وريشتهما. وأورسولا من رغبت بأن تأتي إلى سورية المنتصرة، وأن تختم حياتها هنا لأنها كانت في وضع صحي صعب وفي مرحلة متقدمة من مرض السرطان، وأرادت أن تقيم في سورية هذا المعرض-خصوصا في العاصمة دمشق-يضم ستا وأربعين لوحة، يحكي عن شهداء الجيش السوري، وعن شهداء الإعلام السوري، وعن بطولات الشعب السوري، كما يتكلم عن الهجمة الإعلامية والتضليل الذي صار في سورية. حقيقة الوعي الذي تمتلكه الفنانة أورسولا –للأسف-هناك ناس كثيرون حتى من السوريين لم يمتلكوه، المعرض رسالة للخارج وهو أيضاً رسالة للداخل بأن يرى شعبنا السوري».

عايشت الأزمة وقدّمتها بالحقيقة
من جانبه كان الفنان التشكيلي وليد الآغا حاضرا خلال افتتاح معرض الفنانة اورسولا، وعبر بكل محبة وامتنان وشكر لصدق ما جسدته في أعمالها قائلاً «أنا متابع لأورسولا منذ فترة قريبة، بعد أن تمكّنت من استقطاب الاهتمام بما يدور في سورية وهي مازالت في ألمانيا، وأصبحنا أكثر معرفة وصداقة عبر الفيسبوك، وكان بيننا تواصل فني وقراءات في اللوحات، لكن ما أحب أن أتكلم عنه في المعرض أنها استطاعت أن تجسّد الأزمة بكل تفاصيلها، ويبدو أن المعاناة والتفاصيل التي تُغني اللوحة، هي أمور تفكر بها الفنانة وتعيشها من خلال مشاعرها الدافقة حول الأزمة، مع العلم أن هذه الأمور تمثل زخما غير عادي، ولا يستطيع أي فنان أن يمتلكه ويدخل في أدق تفاصيله، أو أن يعبّر تماما عنه، وكل هذا وهي ليس لها علاقة بالأزمة السورية، إلا أنها إنسانيا ووجدانيا بكل مشاعرها تتعايش معنا وتعطي الحالة وتشعرنا بأنها كانت موجودة، حتى إنها مصابة. أنا أجلّها وأحيي فيها هذا الإنسان المعطاء والخيّر، وأشكرها وأشكر كل لحظة عملت بها كي تعطي إضاءة على الأزمة السورية، وفي النهاية أعتبر أنفسنا كفنانين تشكيليين، فنانين مريضين، لأننا لم نستطع أن نعبّر كما هي عبرت وهذا الكلام أقوله من دون أي انفعال».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن