ثقافة وفن

قلعة المينقة لوحة فنية ساحرة تجمع … بين جمال الطبيعة وعبق التاريخ في مشهد واحد

| المهندس علي المبيض

كنا قد قدمنا في المقالات السابقة لمحةً موجزةً عن بعض المعالم التاريخية في سورية وذلك في معرض حديثنا عن التاريخ السوري الحافل وتطرقنا لبعض الحضارات والممالك التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة ونهدف من وراء ذلك التأكيد على وحدة السكان والأرض والتراث الثقافي منذ فجر التاريخ، والذي سيصل بنا بالتأكيد للوقوف على عظمة سورية وأصالة السوري وتجذره في أرضه وأن الإنسان السوري الذي شارك بفاعلية منذ القدم في بناء الحضارة وقدم للبشرية العديد من الاختراعات والابتكارات التي ساهمت بتقدم وتطور العلوم في شتى المجالات، جدير بأحفاده اليوم إعادة بناء ما تهدم ووصل ما انقطع والذي يحاول الظلاميون باستمرار بشتى الأساليب تشويه هذا التاريخ وإزالة الآثار التي تشهد على عظمته.
وضمن هذا السياق تحدثنا في المقالين السابقين عن القلاع في سورية حيث قدمنا إضاءةً بسيطةً عن قلعة حلب وقلعة دمشق، وقلعة صلاح الدين وقلعة المهالبة وقلعة بني قحطان في اللاذقية، ونبقى في اللاذقية حيث نتحدث اليوم عن قلعة مهمة لكنها غير مشهورة ولم تلق من العناية القدر الكافي الذي يتناسب مع أهميتها ولا مع جمال المنطقة التي تقع فيها وهي قلعة المينقة.
توصف قلعة المينقة بأنها التاج المنيع، وهي قلعة تقع ضمن بيئة جميلة جداً، موقعها يجمع بين جمال الطبيعة وعبق التاريخ في مشهد واحد، تضمها لوحةً فنيةً واحدةً يتناغم فيها شموخ الجبل مع جمال الوديان السحيقة المحيطة بها.
قلعة المينقة في محافظة اللاذقية قلعة منسية في طبيعة ساحرة خلابة تتربّع على عرش جبالنا وتجثم في أعلى تلال ريف جبلة.
تقع قلعة المينقة في منتصف المسافة بين جبلة وبانياس حيث تبعد نحو 35 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة جبلة على طريق واد معروف حالياً بوادي القلع ويشكل هذا الوادي الحد الطبيعي بين محافظتي اللاذقية وطرطوس، بنيت القلعة في بداية القرن الحادي عشر الميلادي.
عرفت قلعة المينقة لدى المؤرخين كإحدى القلاع المهمة المنتشرة في محافظة اللاذقية في حين عرفت في الفترة الصليبية بحصن مليكاس أو المالغانس، مازالت القلعة شامخة شموخ جبال الساحل السوري تجثم فوق قمة جبلية كعش النسر قويةً منيعةً مسيطرةً على الوديان المحيطة بها متفاخرة بحضاراتها السالفة صامدة ضد كل الحروب التي شنت عليها، شاهدة على عظمة تلك الحضارات التي تعاقبت على المنطقة رغم ما عانته من تدمير وتخريب.
ترتفع القلعة 630 م عن سطح البحر وتشغل مساحة حوالي10000م2 وتأخذ شكلاً متطاولاً غير هندسي، يبلغ مجموع طول أسوارها 520 م والذي بني وفق هندسة رائعة متناغمة ومنسجمة مع الطبيعة ويتماشى مع الحواف الصخرية للهضبة الصخرية التي بنيت عليها القلعة بشكل كبير، بعض أسوار القلعة المتبقية تكاد تلامس الغيم، تحيط بالقلعة وديان عميقة من جهاتها الثلاث (جنوب شرق غرب) تجري فيها مسيلات مائية مؤمنة لها حماية طبيعية، ومن الجهة الشمالية والشمالية الشرقية تتصل هذه الهضبة الصخرية بالجبال المحيطة بامتداد طبوغرافي طبيعي تم فصله من بناة القلعة بحفر خندق في الصخر بطول 40 متراً وعرض 8 أمتار أما عمقه فغير معروف تماماً كونه مردوماً بالحجارة، ترتفع الهضبة الصخرية التي تم بناء القلعة عليها من الجهة الجنوبية أكثر من الجهة الشمالية، لذلك تم اعتماد تعدد الطوابق في الجهة الشمالية والشمالية الشرقية وتركيز معظم فعاليات القلعة في المنطقة الممتدة بين الخندق والقسم الجنوبي منها، كما توجد داخل القلعة مجموعة من إصطبلات الخيل إضافة إلى خزانات ومستودعات، ويتوسط القلعة ساحة كانت تستخدم لتدريب الجنود والمحاربين على فنون ومهارات القتال تحيط بها عدد من الغرف مبنية بشكل طابقي بأحجار رملية لم تصمد أمام عوامل الحت الطبيعي.
ويلاحظ في الجهة الشرقية بأن بنائي القلعة قد عمدوا إلى تقوية هذه الثغرة الطبيعية ببناء سور وتدعيمه بالأبراج والذي يشكل واجهة عظيمة تظهر القوة والمنعة، وأعطي هذا السور جميع المقومات الكافية لصموده في وجه أي خطر محتمل، ولاتزال الدفاعات الشمالية التي تشكلها الأبراج الدفاعية بحالة سليمة أما باقي جدران وأبراج القلعة فهي مخربة بفعل الأخطار الناجمة عن الأحوال الجوية والإهمال الذي لحق بها وأصابها بسبب انخفاض الوعي بأهمية القلعة لدى أبناء المجتمع المحلي المجاور لها ما دفع البعض لاستخدام أحجارها لبناء البيوت السكنية.
تهدمت معظم مكونات القلعة في القسم الجنوبي لعدم اعتماد المعماريين عند بنائها على الأحجار الضخمة التي تحافظ على المباني لفترات زمنية طويلة، كما نمت الأعشاب البرية فيها وحجبتها عن الرؤية، والقلعة الآن مقسمة ومزروعة شجر زيتون من أهالي المنطقة، ويتوضع بالقرب من جدار القلعة خزانات لتجميع المياه يستخدمها المزارعون في سقاية مزروعاتهم.
بقيت القلعة طوال الفترة الأيوبية بيد حاكمها، بسبب هدنة الصلح التي عقدها مع صلاح الدين الأيوبي، وذلك بعد أن قرر صلاح الدين الثأر من حاكم القلعة لمحاولة اغتياله ثم اتفقا بعد ذلك ومن خلال التفاوض بينهما على شروط تنص على عدم الاعتداء، والتعاون لمقاومة الصليبيين كما أن قبول حاكمها الصلح مع صلاح الدين وفر له السلاح والعتاد لحماية منطقته وحدوده.
في بداية الفترة المملوكية أخذ حاكم قلعة المينقة يشعر بالضعف بعد الصراع الداخلي بينه وبين الجوار، ثم عرض الحاكم صداقته على السلطان الظاهر بيبرس، الذي قبل صداقته وترك له حصنه وأعفاه من الضرائب.
دخل حاكم القلعة في بداية الاحتلال العثماني في صراع مع العثمانيين، إذ كان الولاة يستولون عليها مراراً وكان حكامها يستردونها، ومنذ فترة حكم السلطان عبد المجيد هجرت قلعة المينقة.
مما سبق ندرك مقدرة السوريين على استيعاب كل الظروف التي تمر بهم والتكيف معها، حيث استطاعوا أن يحافظوا على قلعة المينقة ولزمن طويل كإحدى القلاع المنيعة الصامدة فدافعوا عنها رغم تعدد الطامعين بها مرة بالقوة ومرة بالحنكة والسياسة.
استمر هجر قلعة المينقة في بداية الاحتلال الفرنسي لمنطقة الساحل السوري وأصبحت القلعة في تلك الفترة معقلاً للثوار الذين أخذوا يقومون بالغارات على قوات الاحتلال الفرنسي إلى أن تم جلاء القوات الفرنسية عن سورية عام 1946 م.
قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بتسجيلها عام ٢٠٠٣ كأحد المواقع الأثرية في منطقة جبلة كما تقوم ببعض أعمال الترميم والصيانة للقلعة وحسب الإمكانات المتوافرة وذلك منذ عام 2005 كما تقوم بأعمال التنقيب التي كشفت بعض أسوارها وأبراجها وبعض الأقبية داخلها إضافة لكشف البوابة الرئيسية لها.
نقطة مهمة جداً نجد أنه من المفيد الإشارة إليها وهي أن القلعة تقع ضمن مجموعة من القرى ذات الطبيعة الأخاذة تشكل لوحةً فريدة الجمال تتخللها الينابيع والشلالات المائية المتدفقة كستارة مائية تنسدل من قمة الجبل حتى الوادي السحيق عبر المنحدرات والجروف الصخرية العالية وتشكل مشهداً بيئياً وتراثياً وطبيعياً قل نظيره، ويوفر فرصة نادرة للسياح والزوار للاستمتاع بجمال الطبيعة الأخاذ وعبق التاريخ القديم، والمنطقة بكاملها غنية بالمواقع الأثرية التي تعود إلى فترات تاريخية مختلفة كما أن هذه المنطقة تتميز بجمال طبيعتها ووفرة مياهها وتربتها الزراعية الخصبة الصالحة لزراعة العديد من المحاصيل الزراعية التي تشتهر بها المنطقة مثل الزيتون والحمضيات والتبغ وأنواع كثيرة…
يعتبر الوصول إلى هذه القلعة الشامخة المتربعة على رأس قمة جبلية في محافظة اللاذقية مغامرة ممتعة يكتنفها الكثير من النشاط والرغبة في اكتشاف المجهول، حيث يمر الزوار خلال رحلتهم إلى القلعة ضمن طبيعة ساحرة جميلة تتميز بانسياب شلالاتها الرائعة والتي تزيد من جمال المنطقة.
ومن المفيد أن نستثمر فرصة الحديث عن قلعة المينقة ومثيلاتها من المواقع التاريخية المتنوعة والعديدة في سورية للتأكيد على ما ذكرناه في المقالات السابقة من أن التراث الثقافي السوري يمكن أن يكون أحد أهم روافع الفن والفكر والاقتصاد والتنمية بكل أشكالها…. وقلعة المينقة مثال جديد آخر يؤكد ذلك.
قرية المينقة المجاورة للقلعة، قرية وادعة تتربع على قمم جبالنا الساحلية الخلابة، تشكل مع القلعة وبقية القرى المحيطة بها نقطة جذب سياحية مهمة جداً ومقصداً للزوار من داخل سورية وخارجها ويمكن أن تشكل مثل هذه المناطق لو تم استثمارها سياحياً بالشكل المناسب مصدر دخل جيداً وتدعم الاقتصاد الوطني وتسهم الإيرادات الناتجة عن إقامة المشاريع الاستثمارية فيها برفد الناتج المحلي الإجمالي كما توفر هذه الاستثمارات العديد من فرص العمل الضرورية جداً لأبناء المنطقة وبالتالي تسهم في رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لأبناء المجتمع المحلي، لذلك فمن الضروري بل من الواجب توظيفها بهذا الاتجاه.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة في الترويج لمثل هذه المناطق والخطوات المكثفة في هذا المجال، فإنه لا يخفى على أحد وجود مناطق كثيرة غنية بالمواقع الطبيعية والتاريخية وعلى مقربة من المدن الكبرى يمكن أن تشكل أحد المقومات الاقتصادية والسياحية والثقافية الرئيسية في القطر وبالتالي تسهم الإيرادات المالية الناتجة عن ذلك برفع المستوى الخدمي والمعيشي والتعليمي والاقتصادي للمنطقة كما تساعد بزيادة الوعي لدى أبناء المجتمع المحلي والتعريف بأهمية المواقع التاريخية والمباني التراثية ومنع تحويلها إلى مخالفات سكنية ومحلات تجارية، وهذا سيدفع أبناء المنطقة للمحافظة عليها لتبقى معلماً تاريخياً ومقصداً سياحياً لأنها تشكل مصدر دخل رئيسياً ومهماً لهم.
وفي الوقت الذي تبذل فيه سورية مساعي حثيثة لإحياء التراث الثقافي والحفاظ عليه وتوظيفه واستثماره، ولما كانت عملية التنمية بكل أشكالها تحظى اليوم باهتمام كل المؤسسات الرسمية والجهات العامة والخاصة وعلى مختلف مستوياتها، فقد أصبح من الضروري تطوير الرؤى الإستراتيجية المتكاملة ووضع الحلول العملية المتوازنة بين التطوير والتنمية والاستثمار من جهة، وحماية الإرث الطبيعي والثقافي الحساس من جهة أخرى.
وللحديث بقية…

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن