ثقافة وفن

البطل والضحية

| إسماعيل مروة

من إنسان عادي، ومن صحفي يتحدث بكثير من التلعثم، ومن صوت يتحدث باسم مملكته حقاً أو باطلاً، ومن سكين كان الحاكم يشحذها للنيل من أي طرف يحدث بينه وبين المملكة أي نوع من الخلاف في الرأي مهما كان بسيطاً. من ومن، تحول إلى بطل ومعارض وعنيد وبطل يضحي بنفسه على مذبح الحب وتعدد الزوجات، ذلك هو جمال خاشقجي، الذي تبنى فرضية اغتيال الحريري من سورية دون أن يسأل عن التحقيق ونتائجه، والذي وقف مع ما يسمى الربيع العربي دون أي تمحيص، والذي يؤيد المواقف القطرية والتركية والإخوانية دون أي تردد صار بطلاً… بدأ الناس يسألون عنه، والديمقراطيون والجمهوريون صار قضيتهم، والصحفيون تحولوا إلى جوقة للدفاع عنه.. من المؤكد أننا نقف ضد القتل، وضد الاغتيال والتصفية لمجرد الخلاف في الرأي، والقتل كما في الدين لا يكون إلا لحرابة وحرب، ولكن حنانيكم، أليس هو الذي باع قلمه وصوته لأسياده في الحكم مقابل الموقع وما يغدقونه عليه؟ أليس هو من ملأ الفضائيات جعجعة للتجييش ضد سورية من أجل الحريري، متبنياً الرؤية المؤامراتية على سورية؟ وها هو الحريري وأتباع الحريرية يلوذون بالصمت تجاهه لأن أسيادهم في المملكة لا يريدون الحديث في الأمر! بعد اغتيال الحريري التقيت الخاشقجي في بيروت، وفي فندق فينيسيا في مؤتمر نظمته مؤسسة الفكر العربي، ويومها امتطى المنبر، وقال في سورية كلاماً قاسياً ظاناً أنه ما من سوري بين الجمهور أو المؤتمرين، وكان النقاش حاداً للغاية… واضطر الإدارة لإعداد عشاء ينفصل بجانبين! من كان يتخيل أن هذا الصوت يمكن أن تضحي به المملكة، أو أن يتنازل عن ولاءاته؟ لا أحد إلا المصلحة والمال والإيديولوجية، وما أشبهه ببعض مسؤولينا الذين رضعوا المواضع والمسؤولية حتى النهاية ثم انحازوا ضد السلطة وضد البلد، وتركوا للبسطاء مهمة تمييز المواقف، بل تبني آرائهم لأنهم أصبحوا مع الشعب! لكن أي شعب هو الذي انحاز إليه الخاشقجي، إنه الأمير المفضل الذي آلمه سجنه أكثر من أي شيء آخر! أتمنى أن يكون الخاشقجي بخير، وألا تكون تصفيته قد تمت، ليجلس أعماراً متطاولة، وهو يتابع ما قيل عنه وفيه عند ذيوع خبر اختفائه، ليسمع أصدقاءه الذين كان يلازمهم على الشاشات وليقرأ مداخلات المذيع أو المذيعة في قنوات تمولها المملكة، وكيف يتحدثون عنه ويلوون ألسنتهم وربما اقترب أحدهم في لهجته من الشتيمة والاشمئزاز، ليعلم –وحسب- أن من يتنازل عن رأيه وقلمه حتى لجهة ينتمي إليها فلا قيمة له، وأن بيع الرأي يفقد الإنسان قيمته وخصوصيته مهما كان السبب والدافع!
الذين كانوا يتباركون بالخاشقجي ورأيه تحولوا اليوم، وليته يرى، وليت من بقي بعده يتعظ بأن الرأي مقبوض الثمن مدفوع المؤخر، ولا قيمة لأي دفاع عنه.
وبالأمس استضافت إحدى القنوات الممولة سعودياً باحثاً يدعي –النحاس- عضو مجلس الشورى الذي تحدث عن المؤامرة على المملكة! فالذين يرفضون نظرية المؤامرة على غيرهم يرجون لها حول ما جرى لغياب أو تغييب صوت يعارضهم ولو بصورة مؤقتة، والطريف أن المتحدث رأى أن المملكة تدفع ثمن مواقفها القومية العربية، فهي الحصن المنيع المدافع عن العروبة! وهي التي حفظت حق الفلسطينيين، وهي التي رفضت صفقة القرن! عرفنا من المتحدث أن السعودية رفضت صفقة القرن ورفضت الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل حسب تعبيره!
كل هذا فعلته السعودية، لذلك تعاقب على مواقفها الرائعة المهمة مع العرب، فهي التي حافظت على هوية أم الحضارة العربية في الجزيرة العربية اليمن، ولم تسمح لأحد أن يمس هذه الهوية الأصيلة الفطرية! وهي التي وقفت سداً منيعاً من أجل سورية والحفاظ على أم الحضارة الكونية، ولم تسمح لأحد في جامعة الدول العربية أن ينال من سورية!
ما علينا إلا أن نحفظ أيادي السعودية القومية العربية، واستخدام القومية العربية كان لافتاً في الحديث، لذلك تعاقب السعودية على هذه المواقف، وربما بعد أيام يفصّل أحدهم في كيفية تحدي ترامب وطلباته، من أجل ذلك تعاقب السعودية!
وصرنا نسمع نغمة جديدة في الإعلام تتحدث عن الوحدة الإسلامية، وعن قطبي الإسلام السعودية وتركيا، وأن الغرض الوحيد من هذه الحملة هو الإساءة إلى العلاقات السعودية التركية، لذلك هبّت جامعة الدول العربية لمؤازرة السعودية والتنديد بما يمكن أن يحدث من عقوبات اقتصادية..! هذه الجامعة هي نفسها التي جيشت ضد سورية ولم يكن قد وقع أي شخص ضحية في سورية! وهذه الجامعة التي أرادت برعاية حامية القومية العربية السعودية أن تخرج سورية من جامعة الدول العربية! وحامية القومية العربية هي التي أرادت لسورية أن تكون خارج نطاق اجتماعات الأمم المتحدة!
تحولت السعودية إلى ضحية لمواقفها القومية العربية والمدافعة عن العروبة، لذلك تدفع الثمن غالياً!
وفي كل الأحوال: إن ما جرى ويجري كان من أجل إنسان، وحياة الإنسان مهمة، هذا الإنسان هو صوت السعودية المدافع عن مواقفها ضد سورية، وهو الذي يؤلف ما يحلو له لتأييد مواقفها في قمم مجلس التعاون، والذي تحول بين عشية وضحاها إلى معارض عنيد بمباركة من أميركا، وفي هذه المعارضة الخلبية غاب!
حافظت السعودية على الهوية العربية في اليمن فحوّلته إلى جنة للضاد يغني فيها المقالح والبردوني، حتى النبي سليمان يشتهي أن يعود مع بلقيس بعد ما رأى ما قدمته السعودية!
حافظت على سورية التي لا يعرف الكثيرون، أنها زودتها بالإدارات والكوادر البشرية عندما تأسست، وكان أول وزير خارجية لها من سورية، وسفيرها في المغرب الزركلي من سورية، وهو سفيرها لدى جامعة الدول العربية، حافظت عليها بأن سعت إلى إعمارها وتحقيق الرخاء للإنسان السوري في كل مكان منها!
بركات دفاع المملكة عن العروبة والعرب لا ينكرها إلا جاحد!
حاولوا أن يبحثوا عن أي سبب، ابقوا في فكرة المؤامرة على المال والحكم وما شئتم، ولكن لا تضحكوا على الناس بالمواقف العروبية المدافعة! من المؤكد أننا لا نتمنى للسعودية ولا لأي بلد عربي أو أي بلد في العالم أن يكتوي كما اكتوت سورية، ولا أن يطوله التدمير الممنهج كما حدث في سورية بدعم العرب وتمويلهم، وإسهام تركيا وفتح حدودها.. لكن الذي نتمناه أن يتعلم العرب بأن التشظي والمصلحية وصلا بهم إلى هذه الدرجة من الهوان على الجوار والعالم، وأن يتعلم العرب أن المشكلة الحقيقية في حرية الكلمة، وأن استئجار المتحدثين والمسؤولين لن يبني أوطاناً، وأن العودة عن الخطأ والاكتفاء بما وصل إليه الأمر أفضل من التمادي.
وأن يفهم المراقب أنه ما من إعلام حر أو محايد، فالمحطة نفسها التي كان يمتطيها خاشقجي صارت تمط شفتيها شماتة به.. حبذا أن ينتهي القتل والتدمير، وأن يتوقف تزوير الفكر والحقائق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن